ولما نسبهم إلى الكذب عموما نبه على نوع خاص منه هو أكذب الكذب فقال: وإن منهم لفريقا أي جبلوا على الفرقة، فهم لا يزالون يسعون في التفريق يلوون أي يفتلون ويحرفون ألسنتهم بالكتاب بأن ينقلوا اللسان لتغيير الحرف من مخرج إلى آخر - مثلا بأن يقولوا في " اعبدوا الله " اللات، وفي " لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " بالحد، وفي "من زنى فارجموه" فارحموه بالمهملة، أو فحمموه، أو اجلدوه - ونحو هذا.
ولما كان كلام الله سبحانه وتعالى لما له من الحلاوة والجلالة لا يلبس بغيره إلا على ضعيف العقل ناقص الفطرة عبر بالحسبان تنفيرا عن السماع منهم وتنبيها على بعد ما يسمعه الإنسان من غيره فقال: لتحسبوه أي الذي لوي به اللسان فحرف من [ ص: 465 ] الكتاب أي المنزل من عند الله، ولما علم بهذه أنه ليس منه نبه على أنه في غاية البعد عنه فقال: وما هو من الكتاب أعاده ظاهرا تصريحا بالتعميم.
ولما كان إيهامهم هذا من الجرأة بمكان أعلم سبحانه وتعالى أنهم تجاوزوا إلى ما هو أعظم منه فصرحوا بما أوهموه فقال: ويقولون أي مجددين التصريح بالكذب في كل وقت بأن يقولوا هو من عند الله أي المحيط بجميع صفات الكمال، ثم صرح بكذبهم بقوله - مبعدا لما لووا به ألسنتهم عن أن يكون فيه ثبوت حق مظهرا في موضع الإضمار لأن الاسم الذي لم يشارك فيه أحد بوجه أنص على المراد وأنفى لكل احتمال: وما هو أي الذي لووا به ألسنتهم حتى أحالوه عن حقيقته من عند الله أي الذي له الإحاطة العامة، فما لم يكن من عنده فلا حق فيه بوجه من الوجوه، لا بكونه من الكتاب ولا من غيره.
ولما بين بهذا كذبهم على الله سبحانه وتعالى تصريحا بعد أن قدم في الآية الأولى بيانه بما يظن تلويحا أخبر بأن ذلك عادة لهم، لا يقفون [ ص: 466 ] منه عند عد، ولا ينحصرون فيه بحد، فقال: ويقولون على الله أي الحائز لجميع العظمة جرأة منهم الكذب أي العام كما قالوا عليه هذا الكذب الخاص، ولما كان الكذب قد يطلق على ما لم يتعمد، بل وقع خطأ احترز عنه بقوله: وهم يعلمون أي أنه كذب، لا يشكون فيه.