ولما كان من المقاصد العظيمة الدلالة على اتباع بعض هذه الأمم بعضا في الخير والشر على نسق ، والجري بهم في إهلاك المكذبين [ ص: 437 ] وإنجاء المصدقين طبقا عن طبق ، وكان إهلاك عاد وثمود - لما اشتهروا به من قوة الأبدان ، ومتانة الأركان - في غاية الغرابة ، وكان معنى ختام قصة مدين : فأهلكناهم ، عطف عليه على ذلك المعنى قوله : وعادا أي : وأهلكنا أيضا عادا وثمود مع ما كانوا فيه من العتو ، والتكبر والعلو وقد تبين لكم أي : ظهر بنفسه غاية الظهور أيها العرب أمرهم من مساكنهم أي : ما وصف من هلاكهم وما كانوا فيه من شدة الأجسام ، وسعة الأحلام ، وعلو الاهتمام ، وثقوب الأذهان ، وعظيم الشأن ، عند مروركم بتلك المساكن ، ونظركم إليها في ضربكم في التجارة إلى الشام ، فصرفوا أفكارهم في الإقبال على الاستمتاع بالعرض الفاني من هذه الدنيا ، فأملوا بعيدا ، وبنوا شديدا ، ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئا من أمر الله وزين لهم في غاية التزيين الشيطان أي : البعيد من الرحمة ، المحترق باللعنة ، بقوة احتياله ، ومحبوب ضلاله ومحاله أعمالهم أي : الفاسدة ، فأقبلوا بكليتهم عليها مع العدو المبين ، وأعرضوا عن الهداة الناصحين.
ولما تسبب عن هذا التزيين منعهم لعماهم عن الصراط المستقيم قال : فصدهم عن السبيل أي : منعهم عن سلوك الطريق الذي لا طريق إلا هو ، لكونه يوصل إلى النجاة ، وغيره يوصل إلى الهلاك ، [ ص: 438 ] فهو عدم بل العدم خير منه ، ولما كان ذلك ربما ظن أنه لفرط غباوتهم قال : وكانوا أي : فعل بهم الشيطان ما فعل من الإغواء والحال أنهم كانوا كونا هم فيه في غاية التمكن مستبصرين أي : معدودين بين الناس من البصراء العقلاء جدا لما فاقوهم به مما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا ، ولم يسبقونا ، بل أوقعناهم بعملهم السيئات فيما أردنا من أنواع الهلكات ، فاحذروا مثل مصارعهم فإنكم لا تشابهونهم في القوة ، ولا تقاربونهم في العقول.