آمن الرسول أي بما ظهر له من المعجزة القائمة على أن الآتي إليه بهذا الوحي ملك من عند الله سبحانه وتعالى كما آمن الملك به بما ظهر له من المعجزة الدالة على أن الذي أتى به كلام الله أمره الله سبحانه وتعالى بإنزاله فعرفه إشارة إلى أنه أكمل الرسل في هذا الوصف باعتبار إرساله إلى جميع الخلائق [ ص: 169 ] الذين هم لله سبحانه وتعالى، وأنه الجامع لما تفرق فيهم من الكمال، وأنه المخصوص بما لم يعطه أحد منهم من المزايا والأفضال بما أنـزل إليه أي من أن الله سبحانه وتعالى يحاسب بما ذكر وغير ذلك مما أمر بتبليغه ومما اختص هو به ورغب في الإيمان بما آمن به بقوله: من ربه أي المحسن إليه بجليل التربية المزكي [له] بجميل التزكية فهو لا ينزل إليه إلا ما هو غاية في الخير ومنه ما حصل له في دنياه من المشقة.
قال فقبل الرسول هذا الحساب الأول العاجل الميسر ليستوفي أمره منه وحظه في دنياه، الحرالي: رضي الله تعالى عنها عند موته: واكرباه! : "لا كرب على أبيك بعد اليوم" فاطمة وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه قال صلى الله عليه وسلم لما قالت [له] في الحلية عن أبو نعيم رضي الله تعالى عنه أنس فنال حظه من حكمة ربه في دنياه حتى كان يوعك كما يوعك عشرة رجال، وما شبع من خبز بر ثلاثا تباعا عاجلا حتى لقي الله; وكذلك المؤمن لا راحة له دون لقاء ربه ولا سجن [ ص: 170 ] عليه بعد خروجه من دنياه، "ما أوذي أحد في الله ما أوذيت" انتهى. ولما أخبر عن الرأس أخبر عمن يليه فقال: "الحمى حظ كل مؤمن من النار" والمؤمنون معبرا بالوصف الدال على الرسوخ أي آمنوا بما ظهر لهم من المعجزة التي أثبتت أنه كلام الله سبحانه وتعالى بما دلت على أن الآتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما أجمل فصل فقال مبتدئا: كل أي منهم. قال فجمعهم في كلية كأن قلوبهم قلب واحد لم يختلفوا، لأن القبول واحد والرد يقع مختلفا. انتهى. ثم أخبر عن ذلك المبتدإ بقوله: الحرالي: آمن بالله أي لما يستحقه من ذلك لذاته لما له من الإحاطة بالكمال وملائكته الذين منهم النازلون بالكتب، لأن يستلزم ذلك الإيمان بالمنزل وكتبه أي كلها ورسله كلهم، من البشر كانوا أو من الملائكة، فإن فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الإخبار [ ص: 171 ] بذلك. قال انقيادا لامتثال من البشر. الحرالي:
ولما كان في الناس من يؤمن ببعض الأنبياء ويكفر ببعض قال مؤكدا لما أفهمته صيغة الجمع المضاف من الاستغراق أي قالوا: لا نفرق كما فعل أهل الكتاب وعبر بما يشمل الاثنين فما فوقهما فقال: بين أحد أي واحد وغيره من رسله أي لا نجعل أحدا منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه في ذلك بل نؤمن بكل واحد منهم، والذي دل على تقدير "قالوا" دون غيره أنه لما أكمل قولهم في القوة النظرية الكفيلة باعتقاد المبدإ أتبعه قولهم في القوة العملية الكائنة في الوسط عطفا عليها: وقالوا سمعنا أي بآذان عقولنا كل ما يمكن أن يسمع عنك وعلمناه وأذعنا له وأطعنا أي لكل ما فيه من أمرك.
قال فشاركوا أهل الكتاب في طليعة الإباء وخالفوهم في معاجلة التوبة والإقرار بالسمع والطاعة فكان لهؤلاء ما للتائب وعلى أولئك ما على المصر. انتهى. الحرالي:
[ ص: 172 ] ولما كان الإنسان محل الزلل والنقصان أشاروا إلى ذلك تواضعا منهم كما هو الأولى بهم لمقام الألوهية فقالوا مع طاعتهم معترفين بالمعاد: غفرانك أي اغفر لنا أو نسألك غفرانك الذي يليق إضافته إليك لما له من الكمال والشرف والجلال ما قصرنا فيه ولا تؤاخذنا به فإنك إن فعلت ذلك هلكنا، والحاصل أنهم طلبوا أن يعاملهم بما هو أهله لا بما هم أهله فجرى بما جراهم عليه في قوله: فيغفر لمن يشاء قال فهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم كشف عيان، ومن المؤمنين نشء إيمان، ومن القائلين للسمع والطاعة قول إذعان، فهو شامل للجميع كل على رتبته. انتهى. وزادوا تملقا بقولهم: الحرالي: ربنا ذاكرين وصف الإحسان في مقام طلب الغفران. قال وهو خطاب قرب من حيث لم يظهر [فيه] أداة نداء، ولم يجر الله سبحانه وتعالى على ألسنة المؤمنين في كتابه العزيز نداء بعد قط; والغفران فعلان صيغة مبالغة تعطي الملء ليكون غفرا للظاهر والباطن وهو مصدر محيط المعنى نازل [ ص: 173 ] منزلة الاستغفار الجامع لما أحاط به الظاهر والباطن مما أودعته الأنفس التي هي مظهر حكمة الله سبحانه وتعالى التي وقع فيها مجموع الغفران والعذاب الحرالي: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ففي ضمنه بشرى بتعيين القائلين المذعنين ومن تبعهم بالقول لحال المغفرة، لأن هذه الخواتيم مقبولة من العبد بمنزلة الفاتحة لاجتماعهما في كونهما من الكنز الذي تحت العرش، وعلى ما ورد من قوله: وعلى ما ورد في دعاء هذا الختم في قوله: "قد فعلت قد فعلت" وبما ابتدأ تعالى به آية هذا الحساب وختمها به من سلب الأمر أولا وسلب القدرة عما سواه آخرا، وكان في الابتداء والختم إقامة عذر القائلين، فوجب لهم تحقق الغفران كما كان لأبيهم "حمدني عبدي، إلى أن قال: ولعبدي ما سأل" آدم حيث تلقى الكلمات من ربه. انتهى.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه ربنا فإنه منك مبدأنا، عطف عليه قوله حثا على على وجه الإخلاص: الاجتهاد في كل ما أمر به ونهى عنه وإليك أي لا إلى غيرك المصير أي مطلقا لنا ولغيرنا. وقال ابن الزبير : ولما بين سبحانه وتعالى أن الكتاب هو الصراط المستقيم ذكر افتراق الأمم كما يشاء وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيرا من حالهم ونهيا عن مرتكبهم وحصل [ ص: 174 ] قبيل النزول بجملته وانحصار التاركين وأعقب بذكر ملتزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود وأعقب ذلك بأن المرء يجب أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال سبحانه وتعالى: آمن الرسول بما أنـزل فأعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا: سمعنا وأطعنا لا كقول بني إسرائيل.
سمعنا وعصينا وأنه أثابهم على إيمانهم رفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطإ والنسيان فقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال أخذا وتركا وبيان شرف من أخذ به وسوء حال من تنكب عنه. وكان العباد لما علموا اهدنا الصراط المستقيم - إلى آخر السورة قيل لهم: عليكم بالكتاب - إجابة لسؤالهم; ثم بين لهم حال من سلك ما طلبوا فكان قيل لهم: أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين بين شأنهم وأمرهم، والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين بين أمرهم وشأنهم، والضالون هم النصارى الذين بين [ ص: 175 ] أمرهم وشأنهم; فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء مما نبه عليه وأن يأخذ نفسه بكذا وكذا وأن ينسحب إيمانه على كل ذلك، وأن يسلم الأمر لله الذي تطلب منه الهداية، ويتضرع إليه بأن لا يؤاخذه بما يثمره الخطأ والنسيان، وأن لا يحمله ما ليس في وسعه، وأن يعفو عنه - إلى آخر السورة - انتهى.