ولما كان من المحال أن يضل عن نور هو ملء الخافقين أحد من سكانهما، بين وجه خفائه مع ظهور ضيائه واتساعه وقوة شعاعه، حتى ضل عنه أكثر الناس، فقال مبينا بإضافة النور إلى ضميره أن الإخبار عنه بالنور مجاز لا حقيقة، منبها على أن آياته الهادية تلوح خلال الشبهات الناشئة عن الأوهام الغالبة على الخلق التي هي كالظلمات مثل نوره أي الذي هدى به إلى سبيل الرشاد في خفائه عن بعض الناس مع شدة ظهوره، وهو آياته الدالة عليه من أقواله وأفعاله كمشكاة أي مثل كوة أي خرق لكن غير نافذ في جدار; قال : فإن كان لها منفذ فهي كوة. البغوي
ولما دخل المشكاة في هذا المثل خفيا فقدمها تشويقا إلى شرحه، أتبعه قوله شارحا له: فيها مصباح أي سراج ضخم ثاقب. [ ص: 273 ] وهو الذبالة - أي الفتيلة - الضخمة المتقدة، من الصباح الذي هو نور الفجر، والمصباح الذي هو الكوكب الكبير; قال : وأصله الضوء - انتهى. البغوي
فإذا كان في المشكاة اجتمعت أشعته فكان أشد إنارة، ولو كان في فضاء لافترقت أشعته; وأتى ببقية الكلام استئنافا على تقدير سؤال تعظيما له فقال: المصباح في زجاجة أي قنديل.
ولما كان من الزجاج ما هو في غاية الصفاء، بين أن هذه منه فقال: الزجاجة كأنها أي في شدة الصفاء كوكب شبهه بها دون الشمس والقمر لأنهما يعتريهما الخسوف دري أي متلألئ بالأنوار فإنه إذا كان في زجاجة صافية انعكست الأشعة المنفصلة عنه من بعض جوانب الزجاجة إلى بعض لما فيها من الصفاء والشفيف فيزداد النور ويبلغ النهاية كما أن شعاع الشمس إذا وقع على ماء أو زجاجة صافية تضاعف النور حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك النور; والدري - قال : مأخوذ من درأ إذا اندفع منقضا فتضاعف نوره. [ ص: 274 ] ولما كان من المصابيح أيضا ما يكون نوره ضعيفا بين أن هذا ليس كذلك فقال: الزجاج يوقد أي المصباح، بأن اشتد وقده. ولما كان هذا الضوء يختلف باختلاف ما يتقد فيه، فإذا كان دهنا صافيا خالصا كان شديدا، وكانت الأدهان التي توقد ليس فيها ما يظهر فيه الصفاء كالزيت لأنه ربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض وشعاع يتردد في أجزائه، قال: من شجرة أي زيتها مباركة أي عظيمة الثبات والخيرات يطيب منبتها زيتونة
ولما كان الزيت يختلف باختلاف شجرته في احتجابها عن الشمس وبروزها لها، لأن الشجر ربما ضعف وخبث ثمره بحائل بينه وبين الشمس، بين أن هذه الشجرة ليست كذلك فقال: لا شرقية أي ليست منسوبة إلى الشرق وحده، لكونها بحيث لا يتمكن منها [ ص: 275 ] الشمس إلا عند الشروق لكنها في لحف جبل يظلها إذا تضيفت الشمس للغروب ولا غربية لأنها في سفح جبل يسترها من الشمس عند الشروق، بل هي بارزة للشمس من حين الشروق إلى وقت الغروب، ليكون ثمرها أنضج فيكون زيته أصفى، قال : هذا قول البغوي رضي الله عنهما في رواية ابن عباس عكرمة والأكثرين. والكلبي
فهي لزكاء عنصرها، وطهارة منبتها، وبروزها للشمس والرياح، بحيث يكاد زيتها لشدة صفائه يضيء ولو لم تمسسه نار
ولما علم من هذا أن لهذا الممثل به أنوارا متظاهرة بمعاونة المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، فلم يبق مما يقوي نوره ويزيده إشراقا، ويمده بإضاءة نقية، قال في الممثل له: نور على نور أي أن العلم الرباني عظيم الاتساع كلما سرحت فيه النظر، وأطلقت عنان الفكر، أتى بالغرائب ولا يمكن أن يوقف له على حد.
ولما كان الإخبار عن مضاعفة هذا النور موجبا لاعتقاد أنه لا يخفى عن أحد، أشار إلى أنه – بشمول علمه وتمام قدرته - يعمى عنه من يريد مع شدة ضيائه، وعظيم لألائه، فقال: يهدي الله أي [ ص: 276 ] بعظمته المحيطة بكل شيء لنوره من يشاء كما هدى الله من هدى من المؤمنين لتبرئة رضي الله عنها قبل إنزال براءتها. عائشة
بكون الله اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يختار له إلا طيبا طاهرا وما شاكل ذلك، وعلم أن قسيم ذلك "ويضل الله عن نوره من يشاء" وعلم أن وجه كونه ضل عنه أكثر الناس إنما هو ستر القادر له بنقص في حس من يريد سبحانه إضلاله، لا لنقص في النور كما قال الشاعر:
والنجم تستصغر الأبصار صورته فالذنب للطرف لا للنجم في الصغر
كما سيأتي إيضاح ذلك عند قوله تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ومر آنفا في حديث رضي الله عنه في الأرواح ما ينفع ههنا. عليولما كان كأنه قيل: ضرب الله هذا المثل لكم لتدبروه فتنتفعوا به، عطف عليه قوله: ويضرب الله أي بما له من الإحاطة بكمال القدرة وشمول العلم الأمثال للناس لعلمه [ ص: 277 ] بها، تقريبا للأفهام، لعلهم يهتدون والله أي الذي له جميع صفات الكمال بكل شيء أي منها ومن غيرها عليم يبين كل شيء بما يسهل سبيله فثقوا بما يقول، وإن لم تفهموه فاتهموا أنفسكم وأمعنوا النظر فيه يفتح لكم سبحانه ما انغلق منه.