فلما علم ذلك كله ، وكانت الأمثال ألصق بالبال وأكشف للأحوال مثل حالهم في هداهم الذي باعوه بالضلالة بالأمور المحسوسة ، لأن للتمثيل بها شأنا عظيما في إيصال المعاني حتى إلى الأذهان الجامدة وتقريرها فيها بقوله تعالى : مثلهم أي في حالهم هذه التي طلبوا أن يعيشوا بها كمثل الذي استوقد نارا أي طلب أن توقد له وهي هداه ليسير في نورها ، وأصلها من نار إذا نفر لتحركها واضطرابها ، فوقدت وأنارت .
فلما أضاءت أي النار ، وإفراد الضمير باعتبار لفظ " الذي " فقال [ ص: 119 ] ما حوله وأراد أن ينتفع بها في إبصار ما يريد ، وهو كناية عما حصل لهم من الأمنة بما قالوه من كلمة الإسلام من غير اعتقاد ذهب الله الذي له كمال العلم والقدرة ، وجمع الضمير نظرا إلى المعنى لئلا يتوهم أن بعضهم انتفع دون بعض بعد أن أفرد تقليلا للنور وإن كان قويا في أوله لانطفائه في آخره ، فقال : بنورهم أي الذي نشأ من تلك النار بإطفائه لها ولا نور لهم سواه ؛ ولم يقل : بضوئهم ، لئلا يتوهم أن المذهوب به الزيادة فقط ، لأن الضوء أعظم من مطلق النور هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا فذهب نورهم وبقيت نارهم ليجتمع عليهم حرها مع حر الفقد لما ينفعهم من النور ، وعبر بالإضاءة أولا إشارة إلى قوة أولهم وانمحاق آخرهم ، لأن محط حالهم الباطل ، والباطل له صولة ثم تضمحل عند من ثبت لها ليتبين الصادق من الكاذب ، وعبر بالذهاب به دون إذهابه ليدل نصا على أنه سبحانه ليس معهم ، وحقق ذلك بالتعبير عن صير بترك فقال : وتركهم في ظلمات [ ص: 120 ] أي بالضلالة من قلوبهم وأبصارهم وليلهم أي ظلمات لا ينفذ فيها بصر ، فلذا كانت نتيجته لا يبصرون أي لا إبصار لهم أصلا ببصر ولا بصيرة .