ولما كان الدليل - مع وضوحه - فيه بعض غموض، شرع تعالى في شيء من التي هي أبين من ذلك دليلا ظاهرا جدا على إبطال قول الفلاسفة، فقال: تفصيل ما في الأرض من الآيات وفي الأرض أي التي أنتم سكانها، تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك قطع متجاورات فهي متحدة البقعة مختلفة الطبع، طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر وعكسها، ومع انتظام الكل في الأرضية وجنات جمع جنة، وهي البستان الذي تجنه الأشجار من أعناب وكأنه قدمها لأن أصنافها - الشاهدة بأن صانعها إنما هو الفعال لما يريد - لا تكاد تحصر حتى أنه في الأصل الواحد يحصل تنوع الثمرة ولذلك جمعها.
ولما كان تفاوت ما أصله الحب أعجب، قال: وزرع أي [ ص: 279 ] منفردا - في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن بالرفع، وفي خلل الجنات - في قراءة الباقين بالجر. عاصم
ولما كان ما جمعه أصل واحد ظاهر أغرب أخر قوله: ونخيل صنوان فروع متفرقة على أصل واحد وغير صنوان باعتبار افتراق منابتها وأصولها; قال أبو حيان : والصنو: الفرع يجمعه وآخر أصل واحد، وأصله المثل، ومنه قيل للعم: صنو وقال : والصنوان: المتلاصق، يقال: هو ابن أخيه [صنو أبيه] أي لصيق أبيه في ولادته، وهو جمع صنو، وقيل: الصنوان: النخلات التي أصلها واحد - عن الرماني البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم; وقال وقتادة رضي الله عنه: الصنوان: النخلتان أصلهما واحد - انتهى. الحسن
وهو تركيب لا فرق بين مثناه وجمعه إلا بكسر النون من غير تنوين وإعرابها مع التنوين، وسيأتي في يس إن شاء الله تعالى سر تسمية الكرم بالعنب.
ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم، وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الموجد المسبب، لا إلى شيء من الأسباب، قال: تسقى أي أرضها الواحدة كلها [ ص: 280 ] بماء واحد فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم بعد أن يتصعد الماء فيها علوا ضد ما في طبعه من التسفل، ثم يتفرق في كل من الورق والأغصان والثمار بقسطه مما فيه صلاحه ونفضل أي بما لنا من العظمة المقتضية للطاعة بعضها أي بعض تلك الجنات وبعض أشجارها على بعض ولما كان التفضيل على أنحاء مختلفة، بين المراد بقوله: في الأكل أي الثمر المأكول، ويخالف في المطعوم مع اتحاد الأرض وبعض الأصول، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وهو منبه على اختلاف غيره من الليف والسعف واللون للمأكول والطعم والطبع والشكل والرائحة والمنفعة وغيرها مع أن نسبة الطبائع والاتصالات الفلكية إلى جميع الثمار على حد سواء لا سيما إذا رأيت العنقود الواحد جميع حباته حلوة نضيجة كبيرة إلا واحدة فإنها حامضة صغيرة يابسة.
ولما كان المراد في هذا السياق - كما تقدم - تفصيل ما نبه على كثرته بقوله: وكأين من آية في السماوات والأرض الآية، قال: إن في ذلك أي الأمر العظيم الذي تقدم لآيات بصيغة الجمع فإنها بالنظر إلى تفصيلها بالعطف جمع وإن كانت بالنظر إلى الماء مفردة، وهذا بخلاف [ ص: 281 ] ما يأتي في النحل لأن المحدث عنه هناك الماء، وهنا ما ينشأ عنه، فلما اختلف المحدث عنه كان الحديث بحسبه، فالمعنى: دلالات واضحات على أن ذلك كله فعل واحد مختار عليم قادر على ما يريد من ابتداء الخلق ثم تنويعه بعد إبداعه، فهو قادر على إعادته بطريق الأولى.
ولما كانت هذه المفصلة أظهر من تلك المجملة، فكانت من الوضوح بحال لا يحتاج ناظره في الاعتبار به إلى غير العقل، قال: لقوم أي ذوي قوة على ما يحاولونه يعقلون فإنه لا يمكن التعبير في وجه هذه الدلالة إلا بأن [يقال] هذه الحوادث السفلية حدثت بغير محدث، فيقال للقائل: وأنت لا عقل لك، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث ضرورة، فعدم العلم بالضروري يستلزم [عدم] العقل.