ولما كان التقدير: فإذا أعانكم مولاكم عليهم وغلبتموهم وغنمتم فيه فلا تنسبوا إلى أنفسكم فعلا، بل اعلموا أنه هو الفاعل وحده لأن جميع الأفعال متلاشية بالنسبة إلى فعله فلا تتنازعوا في المغنم تنازع من أخذه بقوته وحازه بقدرته، عطف عليه قوله: [ ص: 283 ] واعلموا ابتداء بهذا الأمر إشارة إلى أن ما بعدها من المهمات ليبذلوا الجهد في تفريغ أذهانهم لوعيه وتنزيله منازله ورعيه أنما أي: الذي غنمتم الغنيمة لغة: الفوز بالشيء، وشرعا: ما دخل في أيدي المسلمين من مال الكفار قهرا بالخيل والركاب، وزاد في التعميم حتى لأقل ما يمكن بقوله: من شيء أي: حتى الخيط والمخيط فإنه كله له؛ لأنه الناصر وحده وإنما أنتم آلة لا قدرة لكم على مقاومة الأعداء لأنهم جميع أهل الأرض ولا نسبة لكم منهم في عدد ولا قوة أصلا، فالجاري على منهاج العدل المتعارف عندكم أن يأخذه كله ولا يمكنكم من شيء منه كما كان فيمن قبلكم، يعزل فتنزل نار من السماء فتأكله، ولكنه سبحانه - علم ضعفكم فمن عليكم به ورضي منكم منه بالخمس فسماه لنفسه ورده عليكم، وهو معنى قوله: فأن لله أي: الذي له كل شيء خمسه
ولما كان من المعلوم أن الله تعالى أجل من أن يناله نفع أو ضر، كان من المعلوم أن ذكر اسمه سبحانه إنما هو للإعلام بأن إسلام هذا الخمس والتخلي عنه لا حظ للنفس فيه، وإنما هو لمحض الدين تقربا إليه سبحانه، فذكر مصرفه بقوله: وللرسول أي: يصرف إليه خمس هذا الخمس ما دام حيا ليصرفه في مصالح المسلمين، ويصرف بعده إلى القائم مقامه، يفعل فيه ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله ولذي القربى أي: من الرسول، وهم الآل الذين تحرم عليهم الزكاة: بنو هاشم وبنو المطلب واليتامى أي: لضعفهم والمساكين لعجزهم وابن السبيل أي: المسافر لأن الأسفار مظنات الافتقار، فالحاصل أنه سبحانه لم يرزأكم من [ ص: 284 ] المغنم شيئا، فاعرفوا فضله عليكم أولا بالإنعام بالنصر، وثانيا بحل المغنم، وثالثا بالإمكان من الأربعة الأخماس، ورابعا برد الخمس الخامس فيكم، فاشتغلوا بشكره فضلا عن أن تغفلوا عن ذلك فضلا عن أن تتوهموا أن بكم فعلا تستحقون به شيئا فضلا عن أن تفعلوا من المنازعة في المغنم فعل القاطع بالاستحقاق، اعلموا ذلك كله علم المصدق المؤمن المذعن لما علم لتنشأ عنه ثمرة العمل إن كنتم صادقين في أنكم آمنتم بالله أي: الذي لا أمر لأحد معه وما أي: وبالذي أنـزلنا أي: إنزالا واحدا سريعا لأجل التفريج عنكم من القرآن والجنود والسكينة في قلوبكم وغير ذلك مما تقدم وصفه على عبدنا أي: الذي يرى دائما أن الأفعال كلها لنا فلا ينسب لنفسه شيئا إلا بنا يوم الفرقان أي: يوم بدر الذي جعلنا لكم فيه عزا ينفذ به أقوالكم وأفعالكم في فصل الأمور.
ولما وصفه سبحانه بالفرقان تذكيرا لهم بالنعمة، بينه بما صور حالهم إتماما لذلك - أو أبدل منه - فقال: يوم التقى أي: عن غير قصد من الفريقين بل بمحض تدبير الله الجمعان أي: اللذان أحدهما أنتم وكنتم حين الترائي - لولا فضلنا - قاطعين بالموت، وثانيهما: أعداؤكم وكانوا على اليقين بأنكم في قبضتهم، وذلك هو الجاري على مناهج العوائد، ولو قيل: يوم بدر، لم يفد هذه الفوائد.
ولما كان انعكاس الأمر في النصر محل عجب، ختم الآية بقوله: [ ص: 285 ] والله على كل شيء أي: من نصر القليل على الكثير وعكسه وغير ذلك من جميع الأمور قدير فكان ختمها بذلك كاشفا للسر ومزيلا للعجب ومبينا أن ما فعل هو الجاري على سنن سنته المطرد في قديم عادته عند من يعلم أيامه الماضية في جميع الأعصر الخالية.