[ ص: 214 ] سورة الأنفال
وتسمى الجهاد (بسم الله) أي: الذي له جميع الحول والقوة والطول (الرحمن) الذي أحاط دائرة العقل بشموس الأدلة من كل منقول (الرحيم) الذي من على من شاء من الأتباع; ومقصد هذه السورة تبرؤ العباد من الحول والقوة، وحثهم على المثمر لاجتماع الكلمة المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين المنتج لكل خير، والجامع لذلك كله أنه لما ثبت بالسور الماضية وجوب اتباع أمر الإله والاجتماع عليه لما ثبت من تفرده واقتداره، كان مقصود هذه إيجاب اتباع الداعي إليه بغاية الإذعان والتسليم والرضى والتبرؤ من كل حول وقوة إلى من أنعم بذلك ولو شاء سلبه وأدل ما فيها على هذا قصة الأنفال التي اختلفوا في أمرها وتنازعوا قسمها فمنعهم الله منها وكف عنهم حظوظ الأنفس وألزمهم الإخبات والتواضع، وأعطاها نبيه (صلى الله عليه وسلم) لأنه الذي هزمهم بما رمى من الحصبات التي خرق الله فيها العادة بأن بثها في أعين جميعهم وبما أرسل من جنوده، فكأن الأمر له وحده، يمنحه من يشاء، ثم لما صار له النبي (صلى الله عليه وسلم) ، [ ص: 215 ] رده فيهم منة منه عليهم وإحسانا إليهم، واسمها الجهاد كذلك؛ لأن الكفار دائما أضعاف المسلمين، وما جاهد قوم من أهل الإسلام قط إلا أكثر منهم، وتجب مصابرة الضعف، فلو كان النظر إلى غير قوته سبحانه ما أطيق ذلك، ولهذه المقاصد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد، وإن كثرت من الأعادي الجموع والأعداد، وتوالت إليهم زمر الأمداد من سائر العباد، كما ذكره التسليم لأمر الله الحافظ أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي المغربي في فتوح البلاد من كتابه: الاكتفاء في سيرة المصطفى وأصحابه الثلاثة الخلفاء، وكذا شيخه الخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حبيش في كتابه الذي جمعه في الفتوح، قالا في وقعة اليرموك من فتوح الشام عن حديث سيف بن عمر وهذا لفظ ابن سالم : قال: وكان القارئ يوم ذاك ، قالوا: المقداد بدر أن نقرأ سورة الجهاد عند اللقاء، وهي سورة الأنفال، ولم يزل الناس بعد على ذلك; قالا في وقعة القادسية من فتوح ومن السنة التي سن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد فارس واللفظ لابن سالم أيضا قالوا: ولما صلى سعد - يعني ابن أبي وقاص - رضي الله عنه الظهر أمر غلاما كان رضي الله عنه ألزمه إياه وكان من القراء يقرأ سورة الجهاد، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها فقرأها على الكتيبة التي تليه، وقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها، قال عمر مصعب بن سعيد : وكانت قراءتها سنة يقرأها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند الزخرف ويستقرئها، فعمل [ ص: 216 ] الناس بذلك. انتهى.
ومناسبتها للأعراف أنه لما ذكر تعالى - كما تقدم - عليهم السلام مع أممهم في تلك، ناسب أن يذكر قصة هذا النبي الكريم صلى عليه وسلم مع قومه، وتقدم أنه لما أطنب سبحانه في قصة قصص الأنبياء موسى عليه السلام كان ذلك ربما أوهم تفضيله على الجميع، فأتى بقصة المخاطب بهذا القرآن في سورتين كاملتين، الأنفال في أول أمره وأثنائه، وبراءة في ختام أمره وانتهائه، وفرق بين القصتين، وذلك أن قوم موسى عليه السلام كانوا في سوء العذاب، وكانوا يعلمون عن أسلافهم أن الله سيذكرهم وينجيهم من أيدي القبط، فلما أتاهم موسى عليه السلام وبين لهم الآيات التي أمره الله بها لم يشكوا في أنه الموعود به من رحمة الله لهم، وإتيانه نفع لهم عاجل مع ما فيه من النفع الآجل، فأطبقوا على اتباعه، وكانوا أكثر من ستمائة ألف مقاتل ، ومع ذلك فقد كانوا يخالفون عليه في كل قليل، ولا يجدون قلوبا يواجهون بها القبط في الإباء عن امتثال أوامرهم، وأما محمد (صلى الله عليه وسلم) فأتى قومه ولا حس عندهم من نبوة ولا علم لهم بها، ولم يكونوا تحت ذل أحد، بل كانوا ملوك العرب، فعندهم أنه جاء يسلبهم عزهم ويصيرهم له تبعا فخالفوا أشد المخالفة ولم يدعوا كيدا حتى باشروه في رده عما جاء به، ومع ذلك فنصره الله عليهم ولم يزل يؤيده حتى دخل الناس هم وغيرهم في دين الله أفواجا، وأظهر دينه على الدين كله كما وعده سبحانه، ثم أيد أمره من بعده ولم يزل أتباعه ظاهرين ولا يزالون إلى يوم الدين، [ ص: 217 ] فبين القصتين فرقان لأولي الإبصار والإتقان، وأما مناسبة أولها لآخر تلك فقد تبين أن آخر الأعراف آخر قصة موسى عليه السلام المختتمة بقصة بلعام وأن ما بعد ذلك إنما هو تتمات لما تقدم لا بد منها وتتمات للتتمات حتى كان آخر ذلك مدح من أهلهم لعنديته سبحانه بالإذعان وتمام الخضوع، فلما أضيفوا إلى تلك الحضرة العالية، اقتضى ذلك سؤالا عن حال الذين عند المخاطب (صلى الله عليه وسلم) فأجيب