قوله تعالى : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها فيه أمر بإيفاء الحقوق على الكمال ؛ ولما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل علمنا أنه لم يكلفنا ذلك وإنما كلفنا الاجتهاد في التحري دون حقيقة الكيل والوزن ، وهذا أصل في جواز الاجتهاد في الأحكام وأن كل مجتهد مصيب وإن كانت الحقيقة المطلوبة بالاجتهاد واحدة ؛ لأنا قد علمنا أن للمقدار المطلوب من الكيل حقيقة معلومة عند الله تعالى قد أمرنا بتحريها والاجتهاد فيها ولم يكلفنا إصابتها ؛ إذ لم يجعل لنا دليلا عليها ، فكان كل [ ص: 197 ] ما أدانا إليه اجتهادنا من ذلك فهو الحكم الذي تعبدنا به . وقد يجوز أن يكون ذلك قاصرا عن تلك الحقيقة أو زائدا عليها ، ولكنه لما لم يجعل لنا سبيلا إليها أسقط حكمها عنا . ويدلك على أن تلك الحقيقة المطلوبة غير مدركة يقينا أنه قد يكال أو يوزن ثم يعاد عليه الكيل أو الوزن فيزيد أو ينقص لا سيما فيما كثر مقداره ؛ ولذلك قال الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها في هذا الموضع ، يعني أنه ليس عليه أكثر مما يتحراه باجتهاده . وقد استدل عيسى بن أبان بأمر الكيل والوزن على حكم المجتهدين في الأحكام وشبهه به .