قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (65) رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار (66) قل هو نبأ عظيم (67) أنتم عنه معرضون (68) ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون (69) إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين (70) إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه [ ص: 3025 ] من روحي فقعوا له ساجدين (72) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين (74) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين (75) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76) قال فاخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80) إلى يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83) قال فالحق والحق أقول (84) لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85) قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (86) إن هو إلا ذكر للعالمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حين (88)
هذا الدرس الأخير في السورة يعود إلى تقرير القضايا التي عرضت في مقدمتها: قضية التوحيد. والوحي. وقضية الجزاء في الآخرة. ويستعرض قصة آدم دليلا على الوحي بما دار في الملإ الأعلى ذات يوم. وما تقرر يوم ذاك من الحساب على الهدى والضلال في يوم الحساب. كما تتضمن القصة لونا من الحسد في نفس الشيطان هو الذي أراده وطرده من رحمة الله; حينما استكثر على آدم فضل الله الذي أعطاه. كذلك تصور المعركة المستمرة بين الشيطان وأبناء آدم، والتي لا يهدأ أوارها ولا تضع أوزارها. والتي يهدف من ورائها إلى إيقاع أكبر عدد منهم في حبائله، لإيرادهم النار معه، انتقاما من أبيهم آدم، وقد كان طرده بسببه، وهي معركة معروفة الأهداف. ولكن أبناء آدم يستسلمون لعدوهم القديم!
وتختم السورة بتوكيد قضية الوحي، وعظمة ما وراءه، مما يغفل عنه المكذبون الغافلون..
قل: إنما أنا منذر، وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ..
قل لأولئك المشركين، الذين يدهشون ويعجبون ويقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب قل لهم: إن هذه هي الحقيقة: وما من إله إلا الله الواحد القهار .. وقل لهم: إنه ليس لك من الأمر، وليس عليك منه إلا أن تنذر وتحذر وتدع الناس بعد ذلك إلى الله الواحد القهار: رب السماوات والأرض وما بينهما .. فليس له من شريك. وليس من دونه ملجأ في السماوات أو في الأرض أو فيما بينهما. وهو العزيز القوي القادر. وهو الغفار الذي يتجاوز عن الذنب ويقبل التوبة، ويغفر لمن يثوبون إلى حماه.
[ ص: 3026 ] وقل لهم: إن ما جئتهم به وما يعرضون عنه أكبر وأعظم مما يظنون. وإن وراءه ما وراءه مما هم عنه غافلون:
قل: هو نبأ عظيم. أنتم عنه معرضون ..
وإنه لأمر أعظم بكثير من ظاهره القريب. إنه أمر من أمر الله في هذا الوجود كله. وشأن من شؤون هذا الكون بكامله. إنه قدر من قدر الله في نظام هذا الوجود. ليس منفصلا ولا بعيدا عن شأن السماوات والأرض، وشأن الماضي السحيق والمستقبل البعيد.
ولقد جاء هذا النبأ العظيم ليتجاوز قريشا في مكة ، والعرب في الجزيرة، والجيل الذي عاصر الدعوة في الأرض. ليتجاوز هذا المدى المحدود من المكان والزمان; ويؤثر في مستقبل البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها; ويكيف مصائرها منذ نزوله إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولقد نزل في أوانه المقدر له في نظام هذا الكون كله، ليؤدي دوره هذا في الوقت الذي قدره الله له.
ولقد حول خط سير البشرية إلى الطريق الذي خطته يد القدر بهذا النبإ العظيم. سواء في ذلك من آمن به ومن صد عنه. ومن جاهد معه ومن قاومه. في جيله وفي الأجيال التي تلته. ولم يمر بالبشرية في تاريخها كله حادث أو نبأ ترك فيها من الآثار ما تركه هذا النبأ العظيم.
ولقد أنشأ من القيم والتصورات، وأرسى من القواعد والنظم في هذه الأرض كلها، وفي أجيال البشرية جميعها، ما لم يكن العرب يتصورونه ولو في الخيال!
وما كانوا يدركون في ذلك الزمان أن هذا النبأ إنما جاء ليغير وجه الأرض; ويوجه سير التاريخ; ويحقق قدر الله في مصير هذه الحياة; ويؤثر في ضمير البشرية وفي واقعها; ويصل هذا كله بخط سير الوجود كله، وبالحق الكامن في خلق السماوات والأرض وما بينهما. وأنه ماض كذلك إلى يوم القيامة. يؤدي دوره في توجيه أقدار الناس وأقدار الحياة.
والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبإ كما وقف منه العرب أول الأمر. لا يدركون طبيعته وارتباطها بطبيعة الوجود; ولا يتدبرون الحق الكامن فيه ليعلموا أنه طرف من الحق الكامن في بناء الوجود; ولا يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية وفي خط سيرها الطويل استعراضا واقعيا، يعتمدون فيه على نظرة مستقلة غير مستمدة من أعداء هذا النبإ الذين يهمهم دائما أن يصغروا من شأنه في تكييف حياة البشر وفي تحديد خط التاريخ.. ومن ثم فإن المسلمين لا يدركون حقيقة دورهم سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وأنه دور ماض في هذه الأرض إلى آخر الزمان..
ولقد كان العرب الأولون يظنون أن الأمر هو أمرهم وأمر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - واختياره من بينهم، لينزل عليه الذكر. وكانوا يحصرون همهم في هذه الشكلية. فالقرآن يوجه أنظارهم بهذا إلى أن الأمر أعظم من هذا جدا. وأنه أكبر منهم ومن محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وأن محمدا ليس إلا حاملا لهذا النبإ ومبلغا; وأنه لم يبتدعه ابتداعا; وما كان له أن يعلم ما وراءه لولا تعليم الله إياه; وما كان حاضرا ما دار في الملإ الأعلى منذ البدء إنما أخبره الله:
ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ..
وعند هذا يأخذ السياق في عرض قصة البشرية; وما دار في الملإ الأعلى بشأنها منذ البدء. مما يحدد خط سيرها، ويرسم أقدارها ومصائرها. وهو ما أرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - ليبلغه وينذر به في آخر الزمان:
[ ص: 3027 ] إذ قال ربك للملائكة: إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ..
وما ندري نحن كيف قال الله أو كيف يقول للملائكة. وما ندري كذلك كيف يتلقى الملائكة عن الله ولا ندري عن كنههم إلا ما بلغنا من صفاتهم في كتاب الله. ولا حاجة بنا إلى الخوض في شيء من هذا الذي لا طائل وراء الخوض فيه. إنما نمضي إلى مغزى القصة ودلالتها كما يقصها القرآن.
لقد خلق الله هذا الكائن البشري من الطين. كما أن سائر الأحياء في الأرض خلقت من طين. فمن الطين كل عناصرها. فيما عدا سر الحياة الذي لا يدري أحد من أين جاء ولا كيف جاء. ومن الطين كل عناصر ذلك الكائن البشري فيما عدا ذلك السر. وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنسانا. من الطين كل عناصر جسده. فهو من أمه الأرض. ومن عناصرها تكون. وهو يستحيل إلى تلك العناصر حينما يفارقه ذلك السر الإلهي المجهول; وتفارقه معه آثار تلك النفخة العلوية التي حددت خط سيره في الحياة.
ونحن نجهل كنه هذه النفخة; ولكننا نعرف آثارها. فآثارها هي التي ميزت هذا الكائن الإنساني عن سائر الخلائق في هذه الأرض. ميزته بخاصية القابلية للرقي العقلي والروحي. هي التي جعلت عقله ينظر تجارب الماضي، ويصمم خطط المستقبل. وجعلت روحه يتجاوز المدرك بالحواس والمدرك بالعقول، ليتصل بالمجهول للحواس والعقول.
وخاصية الارتقاء العقلي والروحي خاصية إنسانية بحتة، لا يشاركه فيها سائر الأحياء في هذه الأرض. وقد عاصر مولد الإنسان الأول أجناس وأنواع شتى من الأحياء. ولم يقع في هذا التاريخ الطويل أن ارتقى نوع أو جنس - ولا أحد أفراده - عقليا أو روحيا. حتى مع التسليم بوقوع الارتقاء العضوي.
لقد نفخ الله من روحه في هذا الكائن البشري، لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض; وأن يتسلم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها له. حدود العمارة ومقتضياتها من قوى وطاقات.
لقد أودعه القدرة على الارتقاء في المعرفة. ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بمصدر تلك النفخة، واستمد من هذا المصدر في استقامة. فأما حين ينحرف عن ذلك المصدر العلوي فإن تيارات المعرفة في كيانه وفي حياته لا تتناسق، ولا تتجه الاتجاه المتكامل المتناسق المتجه إلى الأمام; وتصبح هذه التيارات المتعارضة خطرا على سلامة اتجاهه. إن لم تقده إلى نكسة في خصائصه الإنسانية، تهبط به في سلم الارتقاء الحقيقي. ولو تضخمت علومه وتجاربه في جانب من جوانب الحياة.
وما كان لهذا الكائن الصغير الحجم، المحدود القوة، القصير الأجل، المحدود المعرفة.. ما كان له أن ينال شيئا من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريمة.. وإلا فمن هو؟ إنه ذلك الخلق الصغير الضئيل الهزيل الذي يحيا على هذا الكوكب الأرضي مع ملايين الأنواع والأجناس من الأحياء. وما الكوكب الأرضي إلا تابع صغير من توابع أحد النجوم. ومن هذه النجوم ملايين الملايين في ذلك الفضاء الذي لا يدري إلا الله مداه.. فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له ملائكة الرحمن; إلا بهذا السر اللطيف العظيم؟ إنه بهذا السر كريم كريم. فإذا تخلى عنه أو انفصم منه ارتد إلى أصله الزهيد.. من طين!