[ ص: 2974 ] وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين (70) أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون (71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72) ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (73) واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون (74) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون (75) فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون (76) أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)
في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة، قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية، وقضية البعث والنشور، تستعرض في مقاطع مفصلة، مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة، كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها، ويتمثل هذا المعنى مركزا في النهاية في الآية التي تختم السورة: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون .فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم، وهي خلقت الإنسان من نطفة، وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة، وهي جعلت من الشجر الأخضر نارا، وهي أبدعت السماوات والأرض، وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود، وذلك قوام هذا المقطع الأخير..
وما علمناه الشعر - وما ينبغي له - إن هو إلا ذكر وقرآن مبين. لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ..
وردت قضية الوحي في أول السورة: يس والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم. لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون.. .. والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه شاعر; ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر.
[ ص: 2975 ] وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك، وأن ما جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - قول غير معهود في لغتهم، وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر، إنما كان هذا طرفا من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه - صلى الله عليه وسلم - في أوساط الجماهير، معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه.
وهنا ينفي الله –سبحانه - أنه علم الرسول الشعر، وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم، فما يعلم أحد شيئا إلا ما يعلمه الله..
ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - : وما ينبغي له فللشعر منهج غير منهج النبوة، الشعر انفعال، وتعبير عن هذا الانفعال، والانفعال يتقلب من حال إلى حال، والنبوة وحي، على منهج ثابت.
على صراط مستقيم، يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله، ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال.
والنبوة اتصال دائم بالله، وتلق مباشر عن وحي الله، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله، بينما الشعر - في أعلى صوره - أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته. فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد، وفورة لحم ودم! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس.هذه - في أعلى صورها - أشواق تصعد من الأرض، وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء.
إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ..
ذكر وقرآن، وهما صفتان لشيء واحد، ذكر بحسب وظيفته، وقرآن بحسب تلاوته، فهو ذكر لله يشتغل به القلب، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان، وهو منزل ليؤدي وظيفة محدودة:
لينذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين ..
ويضع التعبير القرآني الكفر في مقابل الحياة، فيجعل الكفر موتا، ويجعل استعداد القلب للإيمان حياة، ويبين وظيفة هذا القرآن بأنه نزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لينذر من به حياة؛ فيجدي فيهم الإنذار، فأما الكافرون فهم موتى لا يسمعون النذير; وظيفة القرآن بالقياس إليهم هي تسجيل الاستحقاق للعذاب، فإن الله لا يعذب أحدا حتى تبلغه الرسالة ثم يكفر عن بينة ويهلك بلا حجة ولا معذرة!.
وهكذا يعلم الناس أنهم إزاء هذا القرآن فريقان: فريق يستجيب فهو حي، وفريق لا يستجيب فهو ميت، ويعلم هذا الفريق أن قد حق عليه القول، وحق عليه العذاب!.
والمقطع الثاني في هذا القطاع يعرض قضية الألوهية والوحدانية، في إطار من مشاهدات القوم، ومن نعم البارئ عليهم، وهم لا يشكرون:
أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون؟ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون. ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون؟ واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون. لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون. فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ..
أولم يروا؟ فآية الله هنا مشهودة منظورة بين أيديهم، ليست غائبة ولا بعيدة، ولا غامضة تحتاج إلى تدبر [ ص: 2976 ] أو تفكير، إنها هذه الأنعام التي خلقها الله لهم وملكهم إياها، وذللها لهم يركبونها ويأكلون منها ويشربون ألبانها، وينتفعون بها منافع شتى، وكل ذلك من قدرة الله وتدبيره; ومن إيداعه ما أودع من الخصائص في الناس وفي الأنعام، فجعلهم قادرين على تذليلها واستخدامها والانتفاع بها، وجعلها مذللة نافعة ملبية لشتى حاجات الإنسان.وما يملك الناس أن يصنعوا من ذلك كله شيئا، وما يملكون أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وما يملكون أن يذللوا ذبابة لم يركب الله في خصائصها أن تكون ذلولا لهم!. أفلا يشكرون؟ ..
وحين ينظر الإنسان إلى الأمر بهذه العين وفي هذا الضوء الذي يشيعه القرآن الكريم. فإنه يحس لتوه أنه مغمور بفيض من نعم الله.فيض يتمثل في كل شيء حوله، وتصبح كل مرة يركب فيها دابة، أو يأكل قطعة من لحم، أو يشرب جرعة من لبن، أو يتناول قطعة من سمن أو جبن، أو يلبس ثوبا من شعر أو صوف أو وبر، إلى آخره إلى آخره.لمسة وجدانية تشعر قلبه بوجود الخالق ورحمته ونعمته.ويطرد هذا في كل ما تمس يده من أشياء حوله، وكل ما يستخدمه من حي أو جامد في هذا الكون الكبير، وتعود حياته كلها تسبيحا لله وحمدا وعبادة آناء الليل وأطراف النهار..
ولكن الناس لا يشكرون، وفيهم من اتخذ مع هذا كله آلهة من دون الله: واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون. لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون : وفي الماضي كانت الآلهة أصناما وأوثانا، أو شجرا أو نجوما، أو ملائكة أو جنا.والوثنية ما تزال حتى اليوم في بعض بقاع الأرض، ولكن الذين لا يعبدون هذه الآلهة لم يخلصوا للتوحيد، وقد يتمثل شركهم اليوم في الإيمان بقوى زائفة غير قوة الله; وفي اعتمادهم على أسناد أخرى غير الله. والشرك ألوان تختلف باختلاف الزمان والمكان.
ولقد كانوا يتخذون تلك الآلهة يبتغون أن ينالوا بها النصر، بينما كانوا هم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة أن يعتدي عليها معتد أو يصيبها بسوء، فكانوا هم جنودها وحماتها المعدين لنصرتها: وهم لهم جند محضرون .. وكان هذا غاية في سخف التصور والتفكير، غير أن غالبية الناس اليوم لم ترتق عن هذا السخف إلا من حيث الشكل، فالذين يؤلهون الطغاة والجبارين اليوم، لا يبعدون كثيرا عن عباد تلك الأصنام والأوثان، فهم جند محضرون للطغاة، وهم الذين يدفعون عنهم ويحمون طغيانهم، ثم هم في الوقت ذاته يخرون للطغيان راكعين!
إن الوثنية هي الوثنية في شتى صورها، وحيثما اضطربت عقيدة التوحيد الخالص أي اضطراب جاءت الوثنية، وكان الشرك، وكانت الجاهلية! ولا عصمة للبشرية إلا بالتوحيد الخالص الذي يفرد الله وحده بالألوهية، ويفرده وحده بالعبادة، ويفرده وحده بالتوجه والاعتماد، ويفرده وحده بالطاعة والتعظيم.
فلا يحزنك قولهم. إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون .
الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه أولئك الذين اتخذوا من دون الله آلهة، والذين لا يشكرون ولا يذكرون، ليطمئن بالا من ناحيتهم. فهم مكشوفون لعلم الله، وكل ما يدبرونه وما يملكونه تحت عينه. فلا على الرسول منهم، وأمرهم مكشوف للقدرة القادرة، والله من ورائهم محيط.
ولقد هان أمرهم بهذا، وما عاد لهم من خطر يحسه مؤمن يعتمد على الله، وهو يعلم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، وأنهم في قبضته وتحت عينه وهم لا يشعرون!.
والمقطع الثالث في هذا القطع الأخير يتناول قضية البعث والنشور:
أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين. وضرب لنا مثلا ونسي خلقه. قال: من يحيي [ ص: 2977 ] العظام وهي رميم؟ قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون. أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاق العليم. إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن. فيكون ..
ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه، وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته، ويشهده بعينه وحسه مكررا معادا، ثم لا ينتبه إلى دلالته، ولا يتخذ منه مصداقا لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره..
أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ..
فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب؟ إنها نقطة من ماء مهين، لا قوام ولا قيمة! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا، خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا، ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل!.
والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين.وما أبعد النقلة بين المنشإ والمصير! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور؟.
وضرب لنا مثلا - ونسي خلقه - قال: من يحيي العظام وهي رميم. قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ..
يا للبساطة! ويا لمنطق الفطرة! ومنطق الواقع القريب المنظور!.
وهل تزيد النطفة حيوية أو قدرة أو قيمة على العظم الرميم المفتوت؟ أوليس من تلك النطفة كان الإنسان؟ أوليست هذه هي النشأة الأولى؟ أوليس الذي حول تلك النطفة إنسانا، وجعله خصيما مبينا بقادر على أن يحول العظم الرميم مخلوقا حيا جديدا؟.
إن الأمر أيسر وأظهر من أن يدور حوله سؤال، فما بال الجدل الطويل؟!.
قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة. وهو بكل خلق عليم ..
ثم يزيدهم إيضاحا لطبيعة القدرة الخالقة، وصنعها فيما بين أيديهم وتحت أعينهم مما يملكون:
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ..
والمشاهدة الأولية الساذجة تقنع بصدق هذه العجيبة! العجيبة التي يمرون عليها غافلين، عجيبة أن هذا الشجر الأخضر الريان بالماء، يحتك بعضه ببعض فيولد نارا; ثم يصير هو وقود النار، بعد للدونة والاخضرار.والمعرفة العلمية العميقة لطبيعة الحرارة التي يختزنها الشجر الأخضر من الطاقة الشمسية التي يمتصها، ويحتفظ بها وهو ريان بالماء ناضر بالخضرة; والتي تولد النار عند الاحتكاك، كما تولد النار عند الاحتراق، هذه المعرفة العلمية تزيد العجيبة بروزا في الحس ووضوحا، والخالق هو الذي أودع الشجر خصائصه هذه، والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. غير أننا لا نرى الأشياء بهذه العين المفتوحة ولا نتدبرها بذلك الحس الواعي، فلا تكشف لنا عن أسرارها المعجبة، ولا تدلنا على مبدع الوجود، ولو فتحنا لها قلوبنا لباحت لنا بأسرارها، ولعشنا معها في عبادة دائمة وتسبيح!.