قل: إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
وهذه المسألة. مسألة بسط الرزق وقبضه; وتملك وسائل المتاع والزينة أو الحرمان منها، مسألة يحيك منها شيء في صدور كثيرة. ذلك حين تتفتح الدنيا أحيانا على أهل الشر والباطل والفساد، ويحرم من أعراضها أحيانا أهل الخير والحق والصلاح; فيحسب بعض الناس أن الله ما كان ليغدق على أحد إلا وهو عنده ذو مقام. أو يشك بعض الناس في قيمة الخير والحق والصلاح، وهم يرونها محوطة بالحرمان!
ويفصل القرآن هنا بين أعراض الحياة الدنيا والقيم التي ينظر الله إليها. ويقرر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وأن هذه مسألة ورضاه وغضبه مسألة أخرى ولا علاقة بينهما. وقد يغدق الله الرزق على من هو عليه غاضب كما يغدقه على من هو عليه راض. وقد يضيق الله على أهل الشر كما يضيق على أهل الخير. ولكن العلل والغايات لا تكون واحدة في جميع هذه الحالات.
لقد يغدق الله على أهل الشر استدراجا لهم ليزدادوا سوءا وبطرا وإفسادا، ويتضاعف رصيدهم من الإثم والجريمة، ثم يأخذهم في الدنيا أو في الآخرة - وفق حكمته وتقديره - بهذا الرصيد الأثيم! وقد يحرمهم فيزدادوا شرا وفسوقا وجريمة، وجزعا وضيقا ويأسا من رحمة الله، وينتهوا بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الشر والضلال.
ولقد يغدق الله على أهل الخير، ليمكنهم من أعمال صالحة كثيرة ما كانوا بالغيها لو لم يبسط لهم في الرزق، وليشكروا نعمة الله عليهم بالقلب واللسان والفعل الجميل; ويذخروا بهذا كله رصيدا من الحسنات يستحقونه عند الله بصلاحهم وبما يعلمه من الخير في قلوبهم. وقد يحرمهم فيبلو صبرهم على الحرمان، وثقتهم بربهم، ورجاءهم فيه، واطمئنانهم إلى قدره، ورضاهم بربهم وحده، وهو خير وأبقى; وينتهوا بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الخير والرضوان.
وأيا ما كانت أسباب بسط الرزق وقبضه من عمل الناس، ومن حكمة الله، فهي مسألة منفصلة عن أن تكون دليلا بذاتها على أن المال والرزق والأبناء والمتاع قيم تقدم أو تؤخر عند الله. ولكنها تتوقف على تصرف [ ص: 2911 ] المبسوط لهم في الرزق أو المضيق عليهم فيه. فمن وهبه الله مالا وولدا فأحسن فيهما التصرف فقد يضاعف له الله في الثواب جزاء ما أحسن في نعمة الله. وليست الأموال والأولاد بذاتها هي التي تقربهم من الله; ولكن تصرفهم في الأموال والأولاد هو الذي يضاعف لهم في الجزاء:
وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى. إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون. والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ..
ثم يكرر قاعدة أن بسط الرزق وقبضه أمر آخر يريده الله لحكمة منفصلة; وأن ما ينفق منه في سبيل الله هو الذخر الباقي الذي يفيد، لتقر هذه الحقيقة واضحة في القلوب:
قل: إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له. وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ..
ويختم هذه الجولة بمشهدهم محشورين يوم القيامة، حيث يواجههم الله سبحانه بالملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله; ثم يذوقون عذاب النار الذي كانوا يستعجلون به، ويقولون متى هذا الوعد؟ كما جاء في أول هذا الشوط:
ويوم يحشرهم جميعا، ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا: سبحانك أنت ولينا من دونهم. بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون. فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا، ونقول للذين ظلموا: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ..
فهؤلاء هم الملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، أو يتخذونهم عنده شفعاء. هؤلاء هم يواجهون بهم، فيسبحون الله تنزيها له من هذا الادعاء، ويتبرأون من عبادة القوم لهم. فكأنما هذه العبادة كانت باطلا أصلا، وكأنما لم تقع ولم تكن لها حقيقة. إنما هم يتولون الشيطان. إما بعبادته والتوجه إليه، وإما بطاعته في اتخاذ شركاء من دون الله. وهم حين عبدوا الملائكة إنما كانوا يعبدون الشيطان! ذلك إلى أن عبادة الجن عرفت بين العرب ; وكان منهم فريق يتوجه إلى الجن بالعبادة أو الاستعانة: بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون .. ومن هنا تجيء علاقة قصة سليمان والجن بالقضايا والموضوعات التي تعالجها السورة، على طريقة سياقة القصص في القرآن الكريم.
وبينما المشهد معروض يتغير السياق من الحكاية والوصف إلى الخطاب والمواجهة. ويوجه القول إليهم بالتأنيب والتبكيت:
فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ..
لا الملائكة يملكون للناس شيئا. ولا هؤلاء الذين كفروا يملك بعضهم لبعض شيئا. والنار التي كذب بها الظالمون، وكانوا يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، ها هم أولاء يرونها واقعا لا شك فيه:
ونقول للذين ظلموا: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون
وبهذا تختم الجولة مركزة على قضية البعث والحساب والجزاء كسائر الجولات في هذه السورة.