قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير (23) قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (24) قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم (27)
إنها جولة قصيرة حول قضية الشرك والتوحيد. ولكنها جولة تطوف بالقلب البشري في مجال الوجود كله. ظاهره وخافيه. حاضره وغيبه. سمائه وأرضه. دنياه وآخرته. وتقف به مواقف مرهوبة ترجف فيها الأوصال; ويغشاها الذهول من الجلال. كما تقف به أمام رزقه وكسبه، وحسابه وجزائه. وفي زحمة التجمع والاختلاط، وفي موقف الفصل والعزل والتميز والانفراد.. كل أولئك في إيقاعات قوية، وفواصل متلاحقة، وضربات كأنها المطارق: " قل.. قل.. قل.. " كل قولة منها تدمغ بالحجة، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان.
قل: ادعوا الذين زعمتم من دون الله. لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وما لهم فيهما من شرك، وما له منهم من ظهير ..
إنه التحدي في مجال السماوات والأرض على الإطلاق:
قل: ادعوا الذين زعمتم من دون الله ..
ادعوهم. فليأتوا. وليظهروا. وليقولوا أو لتقولوا أنتم ماذا يملكون من شيء في السماوات أو في الأرض جل أو هان؟
لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ..
[ ص: 2904 ] ولا سبيل لأن يدعوا ملكية شيء في السماوات أو في الأرض. فالمالك لشيء يتصرف فيه وفق مشيئته. فماذا يملك أولئك المزعومون من دون الله؟ وفي أي شيء يتصرفون تصرف المالك في هذا الكون العريض؟
لا يملكون في السماوات والأرض مثقال ذرة ملكية خالصة، ولا على سبيل المشاركة:
وما لهم فيهما من شرك ..
والله - سبحانه - لا يستعين بهم في شيء. فما هو في حاجة إلى معين:
وما له منهم من ظهير ..
ويظهر أن الآية هنا تشير إلى نوع خاص من الشركاء المزعومين. وهم الملائكة الذين كانت العرب تدعوهم بنات الله; وتزعم لهم شفاعة عند الله. ولعلهم ممن قالوا عنهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى .. ومن ثم نفى شفاعتهم لهم في الآية التالية. وذلك في مشهد تتفزع له الأوصال في حضرة ذي الجلال:
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ..
فالشفاعة مرهونة بإذن الله. والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين به المستحقين لرحمته. فأما الذين يشركون به فليسوا أهلا لأن يأذن بالشفاعة فيهم، لا للملائكة ولا لغيرهم من المأذونين بالشفاعة منذ الابتداء!
ثم صور المشهد الذي تقع فيه الشفاعة; وهو مشهد مذهل مرهوب:
حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير ..
إنه مشهد في اليوم العصيب. يوم يقف الناس، وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال في عليائه بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام. ويطول الانتظار. ويطول التوقع. وتعنو الوجوه. وتسكن الأصوات. وتخشع القلوب في انتظار الإذن من ذي الجلال والإكرام.
ثم تصدر الكلمة الجليلة الرهيبة، فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوعين لهم. ويتوقف إدراكهم عن الإدراك.
حتى إذا فزع عن قلوبهم .. وكشف الفزع الذي أصابهم، وأفاقوا من الروعة التي غمرتهم فأذهلتهم. قالوا: ماذا قال ربكم؟ يقولها بعضهم لبعض. لعل منهم من يكون قد تماسك حتى وعى. قالوا: الحق .. ولعلهم الملائكة المقربون هم الذين يجيبون بهذه الكلمة المجملة الجامعة: قالوا الحق . قال ربكم: الحق. الحق الكلي. الحق الأزلي. الحق اللدني. فكل قوله الحق. وهو العلي الكبير .. وصف في المقام الذي يتمثل فيه العلو والكبر للإدراك من قريب..
وهذه الإجابة المجملة تشي بالروعة الغامرة، التي لا ينطق فيها إلا بالكلمة الواحدة!
فهذا هو موقف الشفاعة المرهوب. وهذه صورة الملائكة فيه بين يدي ربهم. فهل بعد هذا المشهد يملك أحد أن يزعم أنهم شركاء لله، شفعاء في من يشرك بالله؟!
ذلك هو الإيقاع الأول، في ذلك المشهد الخاشع الواجف المرهوب العسير. ويليه الإيقاع الثاني عن الرزق الذي يستمتعون به، ويغفلون عن مصدره، الدال على وحدة الخالق الرازق. الباسط القابض، الذي ليس له شريك:
قل من يرزقكم من السماوات والأرض.. قل: الله. وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ..
والرزق مسألة واقعة في حياتهم. رزق السماء من مطر وحرارة وضوء ونور.. ذلك فيما كان يعرفه المخاطبون [ ص: 2905 ] ووراءه كثير من الأصناف والألوان تتكشف آنا بعد آن.. ورزق الأرض من نبات وحيوان وعيون ماء وزيوت ومعادن وكنوز.. وغيرها مما يعرفه القدامى ويتكشف غيره على مدار الزمان..
قل: من يرزقكم من السماوات والأرض؟ ..
قل: الله ..
فما يملكون أن يماروا في هذا ولا أن يدعوا سواه.
قل: الله. ثم كل أمرهم وأمرك إلى الله. فأحدكما لا بد مهتد وأحدكما لا بد ضال. ولا يمكن أن تكون أنت وهم على طريق واحد من هدى أو من ضلال:
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ..
وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال. أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمشركين:
إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى، والآخر لا بد أن يكون على ضلال. ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال. ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم، والرغبة في الجدال والمحال! فإنما هو هاد ومعلم، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم، لمجرد الإذلال والإفحام!
الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام، المستكبرين على الإذعان والاستسلام، وأجدر بأن يثير التدبر الهادئ والاقتناع العميق. وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة..
ومنه كذلك الإيقاع الثالث، الذي يقف كل قلب أمام عمله وتبعته، في أدب كذلك وقصد وإنصاف:
قل: لا تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تعملون ..
ولعل هذا كان ردا على اتهام المشركين بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه هم المخطئون الجارمون! وقد كانوا يسمونهم: " الصابئين " أي المرتدين عن دين الآباء والأجداد. وذلك كما يقع من أهل الباطل أن يتهموا أهل الحق بالضلال! في تبجح وفي غير ما استحياء!
قل: لا تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تعملون ..
فلكل عمله. ولكل تبعته ولكل جزاؤه.. وعلى كل أن يتدبر موقفه، ويرى إن كان يقوده إلى فلاح أو إلى بوار.
وبهذه اللمسة يوقظهم إلى التأمل والتدبر والتفكر. وهذه هي الخطوة الأولى في رؤية وجه الحق. ثم في الاقتناع.
ثم الإيقاع الرابع:
قل: يجمع بيننا ربنا، ثم يفتح بيننا بالحق، وهو الفتاح العليم ..
ففي أول الأمر يجمع الله بين أهل الحق وأهل الباطل، ليلتقي الحق بالباطل وجها لوجه، وليدعو أهل الحق إلى حقهم، ويعالج الدعاة دعوتهم. وفي أول الأمر تختلط الأمور وتتشابك، ويصطرع الحق والباطل; [ ص: 2906 ] وقد تقوم الشبهات أمام البراهين; وقد يغشى الباطل على الحق.. ولكن ذلك كله إلى حين.. ثم يفصل الله بين الفريقين بالحق، ويحكم بينهم حكمه الفاصل المميز الحاسم الأخير.. وهو الفتاح العليم .. الذي يفصل ويحكم عن علم وعن معرفة بين المحقين والمبطلين..
وهذا هو الاطمئنان إلى حكم الله وفصله. فالله لا بد حاكم وفاصل ومبين عن وجه الحق. وهو لا يترك الأمور مختلطة إلا إلى حين. ولا يجمع بين المحقين والمبطلين إلا ريثما يقوم الحق بدعوته، ويبذل طاقته، ويجرب تجربته; ثم يمضي الله أمره ويفصل بفصله.
والله سبحانه هو الذي يعلم ويقدر متى يقول كلمة الفصل. فليس لأحد أن يحدد موعدها، ولا أن يستعجلها. فالله هو الذي يجمع وهو الذي يفتح. وهو الفتاح العليم ..
ثم يأتي الإيقاع الأخير، شبيها بالإيقاع الأول في التحدي عن الشركاء المزعومين:
قل: أروني الذين ألحقتم به شركاء. كلا. بل هو الله العزيز الحكيم ..
وفي السؤال استنكار واستخفاف: أروني الذين ألحقتم به شركاء .. أروني إياهم. من هم؟ وما هم؟ وما قيمتهم؟ وما صفتهم؟ وما مكانهم؟ وبأي شيء استحقوا منكم هذه الدعوى؟ .. وكلها تشي بالاستنكار والاستخفاف.
ثم الإنكار في ردع وتأنيب: " كلا " .. فما هم بشركاء. وما له سبحانه من شركاء.
بل هو الله العزيز الحكيم ..
ومن هذه صفاته لا يكون هؤلاء شركاء له. ولا يكون له على الإطلاق شريك..
بهذا ينتهي ذلك الشوط القصير، وتلك الإيقاعات العنيفة العميقة. في هيكل الكون الهائل. وفي موقف الشفاعة المرهوب. وفي مصطرع الحق والباطل. وفي أعماق النفوس وأغوار القلوب.