النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين. إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا. كان ذلك في الكتاب مسطورا ..
لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة، تاركين وراءهم كل شيء، فارين إلى الله بدينهم، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى، وذخائر المال، وأسباب الحياة، وذكريات الطفولة والصبا، ومودات الصحبة والرفقة، ناجين بعقيدتهم وحدها، متخلين عن كل ما عداها. وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس، بما في ذلك الأهل والزوج والولد - المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة، واستيلائها على القلب، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة. وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول الله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ..
كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى. فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت، وظل آخرون فيها على الشرك. فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم. ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية; وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية.
وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليدا، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس، من أن تكون نظاما مستندا إلى أوضاع مقررة.
هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة، تغطي على كل العواطف والمشاعر، وكل الأوضاع والتقاليد، وكل الصلات والروابط. لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب، وتربط - في الوقت ذاته - الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة; فتقوم بينها مقام الدم والنسب، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة. لا بنصوص التشريع، ولا بأوامر الدولة ولكن بدافع داخلي ومد شعوري. يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية. وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس، حيث لم يكن مستطاعا أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع.
نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم; فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم، وفي أموالهم. وتسابقوا إلى إيوائهم; وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة. إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار. وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس، وطيب خاطر، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة!
وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار. وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد. وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها.
وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية; وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد - شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام - وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة. بل بما هو أكثر. وكان ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها.
[ ص: 2828 ] وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها. وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية.
وإن الإسلام - مع حفاوته بذلك المد الشعوري، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائما فوارة دائما، مستعدة للفيضان. لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاستثنائية، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية; ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي، وللنظام العادي، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة.
ومن ثم عاد القرآن الكريم - بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئا ما بعد غزوة بدر ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار، ووجود أسباب معقولة للارتزاق، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم.. عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب، مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة. ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية. فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب - كما هي أصلا في كتاب الله القديم وناموسه الطبيعي: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا. كان ذلك في الكتاب مسطورا ..
وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم، بل على قرابة النفس!: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم .. وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة لجميع المؤمنين: وأزواجه أمهاتهم ..
وولاية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول - عليه صلوات الله وسلامه - ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه: " " . لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم من أنفسهم. فلا يرغبون بأنفسهم عنه; ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته! جاء في الصحيح: " " . وفي الصحيح أيضا والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا يا عمر - حتى أكون أحب إليك من نفسك " . فقال: يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي. فقال - صلى الله عليه وسلم - : " الآن يا عمر " عمر . أن
وليست هذه كلمة تقال، ولكنها مرتقى عال، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء; الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب. فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبا فوق ما يتصور، وفوق ما يدرك! وإنه ليخيل إليه أحيانا أنه طوع مشاعره، وراض نفسه، وخفض من غلوائه في حب ذاته، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى! ويحس لهذه المسة لذعا لا يملك انفعاله معه، فإن ملكه كمن في مشاعره، وغار في أعماقه! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها; ولكنه يصعب [ ص: 2829 ] عليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرا لها، أو عيبا لشيء من خصائصها، أو نقدا لسمة من سماتها، أو تنقصا لصفة من صفاتها. وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره! والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية; أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته. وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكفي أن وهو من هو - قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي. عمر -
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم. جاء في الصحيح.. (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا. وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " . والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه; ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا. وفيما عدا هذا فإن الحياة تقوم على أصولها الطبيعية التي لا تحتاج إلى مد شعوري عال، ولا إلى فورة شعورية استثنائية. مع الإبقاء على صلات المودة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء. فلا يمتنع أن يوصي الولي لوليه بعد مماته; أو أن يهبه في حياته.. " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إن شئتم إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ..
ويشد هذه الإجراءات كلها إلى العروة الأولى، ويقرر أن هذه إرادة الله التي سبق بها كتابه الأزلي: كان ذلك في الكتاب مسطورا .. فتقر القلوب وتطمئن; وتستمسك بالأصل الكبير الذي يرجع إليه كل تشريع وكل تنظيم.
بذلك تستوي الحياة على أصولها الطبيعية; وتسير في يسر وهوادة; ولا تظل معلقة مشدودة إلى آفاق لا تبلغها عادة إلا في فترات استثنائية محدودة في حياة الجماعات والأفراد.
ثم يستبقي الإسلام ذلك الينبوع الفياض على استعداد للتفجر والفيضان، كلما اقتضت ذلك ضرورة طارئة في حياة الجماعة المسلمة.
وبمناسبة ما سطر في كتاب الله، وما سبقت به مشيئته، ليكون هو الناموس الباقي، والمنهج المطرد، يشير إلى ميثاق الله مع النبيين عامة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأولي العزم من الرسل خاصة، في حمل أمانة هذا المنهج، والاستقامة عليه، وتبليغه للناس، والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها; وذلك حتى يكون الناس مسؤولين عن هداهم وضلالهم وإيمانهم وكفرهم، بعد انقطاع الحجة بتبليغ الرسل عليهم صلوات الله وسلامه:
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا. ليسأل الصادقين عن صدقهم، وأعد للكافرين عذابا أليما ..
إنه ميثاق واحد مطرد من لدن نوح - عليه السلام - إلى خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - ميثاق واحد، ومنهج واحد، وأمانة واحدة يتسلمها كل منهم حتى يسلمها.
وقد عمم النص أولا: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم .. ثم خصص صاحب القرآن الكريم وصاحب الدعوة العامة إلى العالمين: ومنك .. ثم عاد إلى أولي العزم من الرسل، وهم أصحاب أكبر الرسالات - [ ص: 2830 ] قبل الرسالة الأخيرة - ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ..
وبعد بيان أصحاب الميثاق عاد إلى وصف الميثاق نفسه: وأخذنا منهم ميثاقا غليظا .. ووصف الميثاق بأنه غليظ منظور فيه إلى الأصل اللغوي للفظ ميثاق - وهو الحبل المفتول - الذي استعير للعهد والرابطة. وفيه من جانب آخر تجسيم للمعنوي يزيد إيحاءه للمشاعر.. وإنه لميثاق غليظ متين ذلك الميثاق بين الله والمختارين من عباده، ليتلقوا وحيه، ويبلغوا عنه، ويقوموا على منهجه في أمانة واستقامة.
ليسأل الصادقين عن صدقهم .. والصادقون هم المؤمنون. فهم الذين قالوا كلمة الصدق، واعتنقوا عقيدة الصدق. ومن سواهم كاذب، لأنه يعتقد بالباطل ويقول كلمة الباطل. ومن ثم كان لهذا الوصف دلالته وإيحاؤه. وسؤالهم عن صدقهم يوم القيامة كما يسأل المعلم التلميذ النجيب الناجح عن إجابته التي استحق بها النجاح والتفوق، أمام المدعوين لحفل النتائج! سؤال للتكريم، وللإعلان والإعلام على رؤوس الأشهاد، وبيان الاستحقاق، والثناء على المستحقين للتكريم في يوم الحشر العظيم!
فأما غير الصادقين. الذين دانوا بعقيدة الباطل، وقالوا كلمة الكذب في أكبر قضية يقال فيها الصدق أو يقال فيها الكذب. قضية العقيدة. فأما هؤلاء فلهم جزاء آخر حاضر مهيأ، يقف لهم في الانتظار: وأعد للكافرين عذابا أليما ..