ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين. ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون. وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ..
فها هي ذي الساعة التي يغفل عنها الغافلون، ويكذب بها المكذبون. ها هي ذي تجيء، أو ها هي ذي تقوم! وهؤلاء هم المجرمون حائرين يائسين، لا أمل لهم في نجاة، ولا رجاء لهم في خلاص. ولا شفاعة لهم من شركائهم الذين اتخذوهم في الحياة الدنيا ضالين مخدوعين! هؤلاء هم حائرين يائسين لا منقذ لهم ولا شفيع. ثم ها هم أولاء يكفرون بشركائهم الذين عبدوهم في الأرض وأشركوهم مع اللهرب العالمين.
ثم ها هو ذا مفرق الطريق بين المؤمنين والكافرين:
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون .. ويتلقون فيها ما يفرح القلب ويسر الخاطر ويسعد الضمير.
وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ..
وتلك نهاية المطاف. وعاقبة المحسنين والمسيئين.
ومن هذه الجولة في مشاهد القيامة في العالم الآخر يعود بهم إلى هذا العالم، وإلى مشاهد الكون والحياة. وإلى عجائب الخلق وأسرار النفس، وإلى خوارق الأحداث ومعجزات التكون. ويبدأ هذه الجولة بتسبيح الله حين تقلب الليل والنهار وحمد الله في الكون العريض بالعشي والإظهار:
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون. يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون. ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون. ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم. إن في ذلك لآيات للعالمين. ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله. إن في ذلك لآيات [ ص: 2762 ] لقوم يسمعون. ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون. وله من في السماوات والأرض كل له قانتون. وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده - وهو أهون عليه - وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ..
إنها جولة ضخمة هائلة، لطيفة عميقة، بعيدة الآماد والأغوار. جولة تطوف بالقلب البشري في الأمسيات والأصباح، والسماوات والأرض، والعشي والإظهار، وتفتح هذا القلب لتدبر الحياة والموت والعمليات الدائبة في النشوء والدثور. وترتد به إلى نشأة الإنسان الأولى، وإلى ما ركب في فطرته من ميول ونوازع، وقوى وطاقات، وما يقوم بين زوجيه من علائق وروابط، وفق تلك الميول والنوازع وهذه القوى والطاقات. وتوجهه إلى آيات الله في خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان وفقا لاختلاف البيئة والمكان. وإلى تدبر ما يعتري الكائن البشري من نوم ويقظة وراحة وكد. وإلى ما يعتري الكون من ظواهر البرق والمطر، وما تثيره في نفوس البشر من خوف وطمع، وفي بنية الأرض من حياة وازدهار. وتمضي هذه الجولة العجيبة في النهاية بالقلب البشري إلى قيام السماوات والأرض في هذا كله بأمر الله، وإلى توجه من في السماوات والأرض كلهم لله. وتنتهي بالحقيقة التي تنجلي حينئذ واضحة هينة يسيرة: إن الله هو يبدئ ويعيد. والإعادة أهون عليه. وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم:
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ..
إن ذلك التسبيح وهذا الحمد يجيئان تعقيبا على مشهد القيامة في الفقرة السابقة، وفوز المؤمنين بروضة فيها يحبرون، وانتهاء الكافرين المكذبين إلى شهود العذاب. ومقدمة لهذه الجولة في ملكوت السماوات والأرض، وأغوار النفس وعجائب الخلق. فيتسقان مع التعقيب على المشهد وعلى التقديم للجولة كل الاتساق.
والنص يربط التسبيح والحمد بالأوقات: الإمساء والإصباح والعشي والإظهار. كما يربطهما بآفاق السماوات والأرض. فيتقصى بهما الزمان والمكان; ويربط القلب البشري بالله في كل بقعة وفي كل أوان، ويشعر بتلك الرابطة في الخالق مع هيكل الكون ودورة الأفلاك وظواهر الليل والنهار والعشي والإظهار.. ومن ثم يظل هذا القلب مفتوحا يقظا حساسا، وكل ما حوله من مشاهد وظواهر، وكل ما يختلف عليه من آونة وأحوال، يذكره بتسبيح الله وحمده، ويصله بخالقه وخالق المشاهد والظواهر والآونة والأحوال.
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها.. وكذلك تخرجون ..
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها .. تلك العملية الدائبة التي لا تكف ولا تني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار في كل مكان، على سطح الأرض، وفي أجواز الفضاء، وفي أعماق البحار.. ففي كل لحظة يتم هذا التحول. بل هذه المعجزة الخارقة التي لا ننتبه إليها لطول الألفة والتكرار. في كل لحظة يخرج حي من ميت ويخرج ميت من حي. وفي كل لحظة يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة، وفي كل لحظة يجف عود أو شجرة تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام. ومن خلال الهشيم والحطام توجد الحبة الجديدة الساكنة المتهيئة للحياة والإنبات، ويوجد الغاز الذي ينطلق في الجو أو تتغذى به التربة، وتستعد للإخصاب. وفي كل لحظة تدب الحياة في جنين. إنسان أو حيوان أو طائر. والجثة التي ترمى في الأرض وتختلط بالتربة وتشحنها بالغازات [ ص: 2763 ] هي مادة جديدة للحياة وغذاء جديد للنبات، فالحيوان والإنسان! ومثل هذا يتم في أغوار البحار وفي أجواز الفضاء على السواء.
إنها دورة دائبة عجيبة رهيبة لمن يتأملها بالحس الواعي والقلب البصير، ويراها على هدى القرآن ونوره المستمد من نور الله.
وكذلك تخرجون .. فالأمر عادي واقعي لا غرابة فيه وليس بدعا مما يشهده الكون في كل لحظة من لحظات الليل والنهار في كل مكان!