[ ص: 2740 ] [ ص: 2741 ] بسم الله الرحمن الرحيم
بقية سورة العنكبوت وسور الروم ولقمان والسجدة
وقسم من سورة الأحزاب.الجزء الحادي والعشرون
[ ص: 2742 ] [ ص: 2743 ] ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46) وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49) وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون (52) ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (53) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (54) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون (55) يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون (56) كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون (57) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين (58) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (59) وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم (60) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم (62) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (63) وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (64) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66) أولم يروا أنا جعلنا حرما [ ص: 2744 ] آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (68) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69)
هذا هو الشوط الأخير في سورة العنكبوت، وقد مضى منها شوطان في الجزء العشرين، ومحور السورة - كما أسلفنا - هو الحديث عن الفتنة والابتلاء لمن يقول كلمة الإيمان، لتمحيص القلوب وتمييز الصادقين والمنافقين بمقياس الصبر على الفتنة والابتلاء، وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين وتفتنهم بالأذى وتصدهم عن السبيل، وتوكيد أخذ الله للمسيئين ونصره للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة، ويثبتون للابتلاء، سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح - عليه السلام - وهي السنة التي لا تتبدل، والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون، والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها.
وقد انتهى الشوط الثاني في نهاية الجزء السابق بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به إلى تلاوة ما أوحي إليه من الكتاب، وإقامة الصلاة لذكر الله، ومراقبة الله العليم بما يصنعون.
وفي الشوط الأخير يستطرد في الحديث عن هذا الكتاب، والعلاقة بينه وبين الكتب قبله، ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم، فبدلوا في كتابهم، وانحرفوا إلى الشرك، والشرك ظلم عظيم - وأن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها، فهي حق من عند الله مصدق لما معهم.
ثم يتحدث عن إيمان بعض أهل الكتاب بهذا الكتاب الأخير على حين يكفر به المشركون الذين أنزل الله الكتاب على نبيهم، غير مقدرين لهذه المنة الضخمة، ولا مكتفين بهذا الفضل المتمثل في تنزيل الكتاب على رسول منهم، يخاطبهم به، ويحدثهم بكلام الله، ولم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطه بيمينه، فتكون هناك أدنى شبهة في أنه من عمله ومن تأليفه!
ويحذر المشركين استعجالهم بعذاب الله، ويهددهم بمجيئه بغتة، ويصور لهم قربه منهم، وإحاطة جهنم بهم، وحالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة; يحضهم على الهجره بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده، يلتفت إليهم في أسلوب عجيب، يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم، وكل معوق يقعد بهم، ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمن في لمسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية، ويلمسها هكذا إلا خالقها اللطيف الخبير.
وينتقل من هذا إلى التعجيب من حال أولئك المشركين، وهم يتخبطون في تصوراتهم فيقرون لله –سبحانه - بخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وتنزيل الماء من السماء، وإحياء الأرض الموات; وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين، ثم هم بعد ذلك يشركون بالله، ويكفرون بكتابه، ويؤذون رسوله، ويفتنون المؤمنين به، ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه، [ ص: 2745 ] والناس من حولهم في خوف وقلق، وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة، ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين.
وتختم السورة بوعد من الله أكيد بهداية المجاهدين في الله، يريدون أن يخلصوا إليه، مجتازين العوائق والفتن والمشاق وطول الطريق، وكثرة المعوقين.
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون ..
إن دعوة الله التي حملها نوح - عليه السلام - والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - لهي دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو رد البشرية الضالة إلى ربها، وهدايتها إلى طريقه، وتربيتها بمنهاجه. وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات: كلهم أمة واحدة، تعبد إلها واحدا، وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله، وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان، وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون.
هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام; والتي تقررها هذه الآية من القرآن; هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب، أو جنس، أو وطن، أو تبادل أو تجارة، ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان وتختفي فيها القوميات والأوطان; ويتلاشى فيها الزمان والمكان، ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان.
ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله، الموافقة لما قبلها من الدعوات، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر.. إلا الذين ظلموا منهم فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية; وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة؛ فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة، وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة.
وإن بعضهم ليفتري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين، فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه، فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم، ولم ينحرف عن دين الله، وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات.