وبعد قصة نوح يطوي السياق القرون حتى يصل إلى الرسالة الكبرى. رسالة إبراهيم:
وإبراهيم إذ قال لقومه: اعبدوا الله واتقوه. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. إنما تعبدون من دون الله أوثانا، وتخلقون إفكا. إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون. وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ..
لقد دعاهم دعوة بسيطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض; وهي مرتبة في عرضها ترتيبا دقيقا يحسن أن يتملاه أصحاب الدعوات..
لقد بدأ ببيان حقيقة الدعوة التي يدعوهم إليها:
اعبدوا الله واتقوه ..
ثم ثنى بتحبيب هذه الحقيقة إليهم، وما تتضمنه من الخير لهم، لو كانوا يعلمون أين يكون الخير:
ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ..
وفي هذا التعقيب ما يحفزهم إلى نفي الجهل عنهم، واختيار الخير لأنفسهم، وهو في الوقت ذاته حقيقة عميقة لا مجرد تهييج خطابي!
وفي الخطوة الثالثة بين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه:أولها: أنهم يعبدون من دون الله أوثانا - والوثن: وهي عبادة سخيفة، وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله.وثانيها: أنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أو دليل، وإنما يخلقون إفكا وينشئون باطلا، يخلقونه خلقا بلا سابقة أو مقدمة، وينشئونه إنشاء من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة.وثالثها: أن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعا، ولا ترزقهم شيئا: التمثال من الخشب -
إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا ..
وفي الخطوة الرابعة: يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق. الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم:
فابتغوا عند الله الرزق ..
والرزق مشغلة النفوس، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان. ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس.
وفي النهاية يهتف بهم إلى واهب الأرزاق المتفضل بالنعم، ليعبدوه ويشكروه:
واعبدوه واشكروا له ..
وأخيرا يكشف لهم أنه لا مفر من الله، فمن الخير أن يثوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين:
إليه ترجعون ..
فإن كذبوا - بعد ذلك كله - فما أهون ذلك! فلن يضر الله شيئا، ولن يخسر رسوله شيئا؛ فقد كذب [ ص: 2729 ] الكثيرون من قبل، وما على الرسول إلا واجب التبليغ:
وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ..
وهكذا يأخذهم خطوة خطوة، ويدخل إلى قلوبهم من مداخلها، ويوقع على أوتارها في دقة عميقة، وهذه الخطوات تعد نموذجا لطريقة الدعوة جديرا بأن يتملاه أصحاب كل دعوة، لينسجوا على منواله في مخاطبة النفوس والقلوب.
وقبل أن يمضي السياق إلى نهاية القصة، يقف وقفة يخاطب بها كل منكر لدعوة الإيمان بالله على الإطلاق; المكذبين بالرجعة إلى الله والبعث والمآب:
أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده؟ إن ذلك على الله يسير. قل: سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، وإليه تقلبون. وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير. والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي، وأولئك لهم عذاب أليم ..
إنه خطاب لكل منكر لله ولقائه، خطاب دليله هذا الكون; ومجاله السماء والأرض; على طرقة القرآن في اتخاذ الكون كله معرضا لآيات الإيمان ودلائله; وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب، تبحث فيها عن آيات الله، وترى دلائل وجوده ووحدانيته، وصدق وعده ووعيده، ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبدا لا تغيب عن إنسان، ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة; ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار؛ فيردهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة، وإلى تلك الآيات الباهرة بتوجيهه الموحي، المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر، ويثير تطلعهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها.ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر، ولا يتخذ طرائق الجدل الذهني البارد والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولا حركة، تلك التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلت غريبة عليه، وفي القرآن المثل والمنهج والطريق..
أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق؟ ثم يعيده. إن ذلك على الله يسير ..
وإنهم ليرون كيف يبدئ الله الخلق، يرونه في النبتة النامية، وفي البيضة والجنين، وفي كل ما لم يكن ثم يكون; مما لا تملك قدرة البشر مجتمعين ومنفردين أن يخلقوه أو يدعوا أنهم خالقوه! وإن سر الحياة وحده لمعجز، كان وما يزال; معجز في معرفة منشئه وكيف جاء - ودع عنك أن يحاوله أحد أو يدعيه - ولا تفسير له إلا أنه من صنع الله الذي يبدئ الخلق في كل لحظة تحت أعين الناس وإدراكهم، وهم يرون ولا يملكون الإنكار!
فإذا كانوا يرون إنشاء الخلق بأعينهم; فالذي أنشأه يعيده:
إن ذلك على الله يسير ..
وليس في خلق الله شيء عسير عليه تعالى، ولكنه يقيس للبشر بمقاييسهم؛ فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم، وإلا فالبدء كالإعادة، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله –سبحانه - وإنما هو توجه الإرادة وكلمة: كن. فيكون..
ثم يدعوهم إلى السير في الأرض، وتتبع صنع الله وآياته في الخلق والإنشاء، في الجامد والحي سواء، ليدركوا أن الذي أنشأ يعيد بلا عناء:
[ ص: 2730 ] قل: سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير ..
والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملها القلب، وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة، وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه; حتى إذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسه وقلبه إلى كل مشهد، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة، مما كان يمر على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه، وربما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد؛ ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته.وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلا عن حديثها; أو كانت لا تفصح له بشيء ولا تناجيه!
فسبحان منزل هذا القرآن، الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس.