ثم يرسم صورة كاملة لنموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء، ثم الادعاء العريض عند الرخاء، يرسمها في كلمات معدودات، صورة واضحة الملامح بارزة السمات:
ومن الناس من يقول: آمنا بالله. فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن: إنا كنا معكم. أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين؟ وليعلمن الله الذين آمنوا، وليعلمن المنافقين ..
ذلك النموذج من الناس، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل، هينة المئونة، لا تكلف إلا نطقها باللسان. فإذا أوذي في الله بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى جعل فتنة الناس كعذاب الله فاستقبلها في جزع، واختلت في نفسه القيم، واهتزت في ضميره العقيدة; وتصور أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه، حتى عذاب الله; وقال في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.
هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة.
ولئن جاء نصر من ربك ليقولن: إنا كنا معكم ! إنا كنا معكم .. وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير، ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة، وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المهزومون، فيقولون: إنا كنا معكم ! أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين؟ ..
[ ص: 2724 ] أو ليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع، ومن إيمان أو نفاق؟ فمن الذي يخدعه هؤلاء وعلى من يموهون؟
وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ..
وليكشفنهم فيعرفون; فما كانت الفتنة إلا ليتبين الذين آمنوا ويتبين المنافقون.
ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق وهو يكشف عن موضع الخطإ في هذا النموذج من الناس حين يقول:
جعل فتنة الناس كعذاب الله ..
فليست الغلطة أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات - وللطاقة البشرية حدود - ولكنهم يظلون يفرقون تفرقة واضحة في تصورهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل، وبين عذاب الله العظيم; فلا يختلط في حسهم أبدا عالم الفناء الصغير وعالم الخلود الكبير، حتى في اللحظة التي يتجاوز عذاب الناس لهم مدى الطاقة وجهد الاحتمال، إن الله في حس المؤمن لا يقوم له شيء، مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله، وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق.
وأخيرا يعرض فتنة الإغواء والإغراء; ويعرض معها فساد تصور الذين كفروا للتبعة والجزاء; ويقرر فردية التبعة وشخصية الجزاء، وهو المبدأ الإسلامي الكبير، الذي يحقق العدل في أجلى مظاهره، وأفضل أوضاعه:
وقال الذين كفروا للذين آمنوا: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم. وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء. إنهم لكاذبون. وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ..
وقد كان الذين كفروا يقولون هذا تمشيا مع تصورهم القبلي في احتمال العشيرة للديات المشتركة، والتبعات المشتركة. يحسبون أنهم قادرون على احتمال جريرة الشرك بالله عن سواهم وإعفائهم منها، ذلك إلى التهكم على قصة الجزاء في الآخرة إطلاقا:
اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ..
ومن ثم يرد عليهم الرد الحاسم، فيرد كل إنسان إلى ربه فردا، يؤاخذه بعمله، لا يحمل أحد عنه شيئا:
وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ..
ويجبهم بما في قولتهم هذه من كذب وادعاء:
إنهم لكاذبون ..
ويحملهم وزر ضلالهم وشركهم وافترائهم، ووزر إضلالهم للآخرين، دون أن يعفي هؤلاء من تبعة الضلال:
وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم. وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون .
ويغلق هذا الباب من أبواب الفتنة; فيعلم الناس أن الله لا يحاسبهم جماعات، إنما يحاسبهم أفرادا، وأن كل امرئ بما كسب رهين.