والقصة الثانية تعرض قيمة المال، ومعها قيمة العلم. المال الذي يستخف القوم وقد خرج عليهم قارون في زينته، وهم يعلمون أنه أوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء. والعلم الذي يعتز به قارون، ويحسب أنه بسببه وعن طريقه أوتي ذلك المال. ولكن الذين أوتوا العلم الصحيح من قومه لا تستخفهم خزائنه، ولا تستخفهم زينته; بل يتطلعون إلى ثواب الله، ويعلمون أنه خير وأبقى. ثم تتدخل يد الله فتخسف به وبداره الأرض، لا يغني عنه ماله ولا يغني عنه علمه; وتتدخل تدخلا مباشرا سافرا كما تدخلت في أمر فرعون، فألقته في اليم هو وجنوده فكان من المغرقين.
لقد بغى فرعون على بني إسرائيل واستطال بجبروت الحكم والسلطان; ولقد بغى قارون عليهم واستطال بجبروت العلم والمال. وكانت النهاية واحدة، هذا خسف به وبداره، وذلك أخذه اليم هو وجنوده. ولم تكن هنالك قوة تعارضها من قوى الأرض الظاهرة. إنما تدخلت يد القدرة سافرة فوضعت حدا للبغي والفساد، حينما عجز الناس عن الوقوف للبغي والفساد.
ودلت هذه وتلك على أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد ويقف الخير عاجزا والصلاح حسيرا; ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال. عندئذ تتدخل يد القدرة سافرة متحدية، بلا ستار من الخلق، ولا سبب من قوى الأرض، لتضع حد للشر والفساد .
وبين القصتين يجول السياق مع المشركين جولات يبصرهم فيها بدلالة القصص - في سورة القصص - ويفتح [ ص: 2675 ] أبصارهم على آيات الله المبثوثة في مشاهد الكون تارة، وفي مصارع الغابرين تارة، وفي مشاهد القيامة تارة.. وكلها تؤكد العبر المستفادة من القصص، وتساوقها وتتناسق معها; وتؤكد سنة الله التي لا تتخلف ولا تتبدل على مدار الزمان. وقد قال المشركون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . فاعتذروا عن عدم اتباعهم الهدى بخوفهم من تخطف الناس لهم، لو تحولوا عن عقائدهم القديمة التي من أجلها يخضع الناس لهم، ويعظمون البيت الحرام ويدينون للقائمين عليه.
فساق الله إليهم في هذه السورة قصة موسى وفرعون، تبين لهم أين يكون الأمن وأين تكون المخافة; وتعلمهم أن الأمن إنما يكون في جوار الله، ولو فقدت كل أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس; وأن الخوف إنما يكون في البعد عن ذلك الجوار ولو تظاهرت أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس! وساق لهم قصة قارون تقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى وتؤكدها.
وعقب على مقالتهم أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون .. يذكرهم بأنه هو الذي آمنهم من الخوف فهو الذي جعل لهم هذا الحرم الآمن; وهو الذي يديم عليهم أمنهم، أو يسلبهم إياه; ومضى ينذرهم عاقبة البطر وعدم الشكر: وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، وكنا نحن الوارثين .
ويخوفهم عاقبة أمرهم بعد أن أعذر إليهم وأرسل فيهم رسولا. وقد مضت سنة الله من قبل بإهلاك المكذبين بعد مجيء النذير: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون .
ثم يعرض عليهم مشهدهم يوم القيامة حين يتخلى عنهم الشركاء على رؤوس الأشهاد; فيبصرهم بعذاب الآخرة بعد أن حذرهم عذاب الدنيا وبعد أن علمهم أين يكون الخوف وأين يكون الأمان.
وتنتهي السورة بوعد من الله لرسوله الكريم وهو مخرج من مكة مطارد من المشركين بأن الذي فرض عليه القرآن لينهض بتكاليفه، لا بد راده إلى بلده، ناصره على الشرك وأهله. وقد أنعم عليه بالرسالة ولم يكن يتطلع إليها; وسينعم عليه بالنصر والعودة إلى البلد لذي أخرجه منه المشركون. سيعود آمنا ظافرا مؤيدا.
وفي قصص السورة ما يضمن هذا ويؤكده. فقد عاد موسى - عليه السلام - إلى البلد الذي خرج منه خائفا طريدا. عاد فأخرج معه بني إسرائيل واستنقذهم، وهلك فرعون وجنوده على أيدي موسى وقومه الناجين.. ويختم هذا الوعد ويختم السورة معه بالإيقاع الأخير:
ولا تدع مع الله إلها آخر، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجعون .
هذا هو موضوع السورة وجوها وظلالها العامة، فلنأخذ في تفصيل أشواطها الأربعة: قصة موسى . والتعقيب عليها. وقصة قارون. وهذا الوعد الأخير..
تبدأ السورة بالأحرف المقطعة:
طا. سين. ميم.. تلك آيات الكتاب المبين ..
تبدأ السورة بهذه الأحرف للتنبيه إلى أنه من مثلها تتألف آيات الكتاب المبين، البعيدة الرتبة، المتباعدة المدى بالقياس لما يتألف عادة من هذه الأحرف، في لغة البشر الفانين:
تلك آيات الكتاب المبين ..
[ ص: 2676 ] فهذا الكتاب المبين ليس إذن من عمل البشر، وهم لا يستطيعونه; إنما هو الوحي الذي يتلوه الله على عبده، ويبدو فيه إعجاز صنعته، كما يبدو فيه طابع الحق المميز لهذه الصنعة في الكبير والصغير: