وإن ربك لذو فضل على الناس، ولكن أكثرهم لا يشكرون وإن فضله ليتجلى في إمهالهم وتأخير العذاب عنهم وهم مذنبون أو مقصرون، عسى أن يتوبوا إليه ويثوبوا إلى الطريق المستقيم. ولكن أكثرهم لا يشكرون على هذا الفضل، إنما يستهزئون ويستعجلون، أو يسدرون في غيهم ولا يتدبرون.
وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو يمهلهم ويؤخر العذاب عنهم، مع علمه بما تكنه صدورهم وما تعلنه ألسنتهم وأفعالهم. فهو الإمهال عن علم، والإمهال عن فضل. وهم بعد ذلك محاسبون عما تكن صدورهم وما يعلنون.
ويختم هذه الجولة بتقرير علم الله الشامل الكامل، الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض:
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ويجول الفكر والخيال في السماء والأرض، وراء كل غائبة. من شيء، ومن سر، ومن قوة، ومن خبر، وهي مقيدة بعلم الله، لا تند منها شاردة، ولا تغيب منها غائبة. والتركيز في السورة كلها على العلم. والإشارات إليه كثيرة، وهذه واحدة منها تختم بها هذه الجولة.
وبمناسبة الحديث عن علم الله المطلق يذكر ما ورد في القرآن من فصل الخطاب فيما اختلف عليه بنو إسرائيل، بوصفه طرفا من علم الله المستيقن، ونموذجا من فضل الله وقضائه بين المختلفين. ليكون هذا تعزية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وليدعهم لله يفصل بينه وبينهم بقضائه الأخير:
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين. إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم. فتوكل على الله إنك على الحق المبين. إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ولقد اختلف النصارى في المسيح - عليه السلام - وفي أمه مريم.
قالت جماعة: إن المسيح إنسان محض، وقالت جماعة: إن الأب والابن وروح القدس إن هي إلا صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس. فالله بزعمهم مركب من أقانيم ثلاثة، الأب والابن وروح القدس (والابن هو عيسى) فانحدر الله الذي هو الأب في صورة روح القدس وتجسد في مريم إنسانا وولد منها في صورة يسوع! وجماعة قالت: إن الابن ليس أزليا كالأب بل هو مخلوق من قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له! وجماعة أنكروا كون روح القدس أقنوما! وقرر مجمع نيقية سنة 325 ميلادية، ومجمع القسطنطينية سنة 381 بأن الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن الروح القدس منبثق من الأب. وقرر مجمع طليطلة سنة 589 بأن روح القدس منبثق من الابن أيضا. فاختلفت الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية عند هذه النقطة وظلتا مختلفين.. فجاء القرآن الكريم يقول كلمة الفصل [ ص: 2665 ] بين هؤلاء جميعا. وقال عن المسيح: إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه وإنه بشر.. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل . وكان هذا فصل الخطاب فيما كانوا فيه يختلفون.
واختلفوا في مسألة صلبه مثل هذا الاختلاف. منهم من قال: إنه صلب حتى مات ودفن ثم قام من قبره بعد ثلاثة أيام وارتفع إلى السماء. ومنهم من قال: إن يهوذا أحد حوارييه الذي خانه ودل عليه، ألقي عليه شبه المسيح وصلب. ومنهم من قال: ألقي شبهه على الحواري سيمون وأخذ به. وقص القرآن الكريم الخبر اليقين فقال: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وقال: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك.. وكانت كلمة الفصل في ذلك الخلاف.
ومن قبل حرف اليهود التوراة وعدلوا تشريعاتها الإلهية; فجاء القرآن الكريم يثبت الأصل الذي أنزله الله: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص وحدثهم حديث الصدق عن تاريخهم وأنبيائهم، مجردا من الأساطير الكثيرة التي اختلفت فيها رواياتهم، مطهرا من الأقذار التي ألصقتها هذه الروايات بالأنبياء، والتي لم يكد نبي من أنبياء بني إسرائيل يخرج منها نظيفا! .. إبراهيم - بزعمهم - قدم امرأته لأبي مالك ملك الفلسطينيين، وإلى فرعون ملك مصر باسم أنها أخته لعله ينال بسببها نعمة في أعينهما! ويعقوب الذي هو إسرائيل أخذ بركة جده إبراهيم من والده إسحاق بطريق السرقة والحيلة والكذب; وكانت بزعمهم هذه البركة لأخيه الأكبر عيصو! ولوط - بزعمهم - أسكرته بنتاه كل منهما ليلة ليضطجع معها لتنجب منه كي لا يذهب مال أبيها إذ لم يكن له وارث ذكر. وكان ما أرادتا! وداود رأى من سطوح قصره امرأة جميلة عرف أنها زوجة أحد جنده، فأرسل هذا الجندي إلى المهالك ليفوز - بزعمهم - بامرأته! وسليمان مال إلى عبادة (بغل) بزعمهم مجاراة لإحدى نسائه التي كان يعشقها ولا يملك معارضتها!