كذبت قوم نوح المرسلين (105) إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون (106) إني لكم رسول أمين (107) فاتقوا [ ص: 2606 ] الله وأطيعون (108) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (109) فاتقوا الله وأطيعون (110) قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111) قال وما علمي بما كانوا يعملون (112) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون (113) وما أنا بطارد المؤمنين (114) إن أنا إلا نذير مبين (115) قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين (116) قال رب إن قومي كذبون (117) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين (118) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119) ثم أغرقنا بعد الباقين (120) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (121) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (122)
كما رجع السياق القهقرى في التاريخ من قصة موسى إلى قصة إبراهيم، كذلك يرجع القهقرى من قصة إبراهيم إلى قصة نوح؛ إن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب وقصة نوح، كقصة موسى وقصة إبراهيم، تعرض في سور شتى من القرآن، وقد عرضت من قبل في سورة "الأعراف" في الخط التاريخي للرسل والرسالات بعد هبوط آدم من الجنة عرضا مختصرا، يتلخص في دعوته قومه إلى التوحيد، وإنذارهم عذاب يوم عظيم، واتهام قومه له بالضلال، وعجبهم من أن يبعث الله إليهم رجلا منهم، وتكذيبهم له؛ ومن ثم إغراقهم ونجاته هو ومن معه بدون تفصيل.
وعرضت في سورة يونس باختصار كذلك في نهاية رسالته، إذ تحدى قومه فكذبوه؛ ثم كانت نجاته ومن معه في الفلك، وإغراق الآخرين.
وعرضت في سورة "هود" بتفصيل في قصة الطوفان والفلك وما بعد الطوفان كذلك من دعائه لربه في أمر ابنه الذي أغرق مع المغرقين؛ وما كان بينه وبين قومه قبل ذلك من جدال حول عقيدة التوحيد.
وعرضت في سورة "لمؤمنون" فذكر منها دعوته لقومه إلى عبادة الله الواحد، واعتراضهم عليه بأنه بشر منهم يريد أن يتفضل عليهم; ولو شاء الله لأنزل ملائكة، واتهامه بالجنون؛ ثم توجهه إلى ربه يطلب نصرته؛ وإشارة سريعة إلى الفلك والطوفان.
وهي تعرض في الغالب في سلسلة مع قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين - وكذلك هي في هذه السورة - وأظهر ما في الحلقة المعروضة هنا دعوته لقومه إلى تقوى الله، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجرا على الهدى، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء - وهذا ما كان يواجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة سواء بسواء - ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه، واستجابة الله له بإغراق المكذبين وتنجية المؤمنين.
كذبت قوم نوح المرسلين ..
تلك هي النهاية، نهاية القصة، يبدأ بها لإبرازها منذ البداية، ثم يأخذ في التفصيل.
[ ص: 2607 ] وقوم نوح لم يكذبوا إلا نوحا، ولكنه يذكر أنهم كذبوا المرسلين، فالرسالة في أصلها واحدة، وهي دعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبودية له، فمن كذب بها فقد كذب بالمرسلين أجمعين، فهذه دعوتهم أجمعين، والقرآن يؤكد هذا المعنى ويقرره في مواضع كثيرة، بصيغ متعددة، لأنه كلية من كليات العقيدة الإسلامية، تحتضن بها الدعوات جميعا; وتقسم بها البشرية كلها إلى صفين: صف المؤمنين وصف الكافرين، على مدار الرسالات ومدار القرون؛ وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة لكل دين وكل عقيدة من عند الله هي أمته، منذ فجر التاريخ إلى مشرق الإسلام دين التوحيد الأخير، وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة وفي كل دين، وإذا المؤمن يؤمن بالرسل جميعا، ويحترم الرسل جميعا، لأنهم جميعهم حملة رسالة واحدة هي رسالة التوحيد.
إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان، إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل، وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل، في كل زمان وفي كل مكان، وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله; وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن، والقرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ، ترتفع فتصبح قيمة واحدة، هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع، ويقوم بها الجميع.
كذبت قوم نوح المرسلين. إذ قال لهم أخوهم نوح : ألا تتقون؟ إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. فاتقوا الله وأطيعون .
هذه هي دعوة نوح التي كذبه فيها قومه - وهو أخوهم - وكان الأليق بالأخوة أن تقود إلى المسالمة والاطمئنان والإيمان والتصديق، ولكن قومه لم يأبهوا لهذه الصلة، ولم تلن قلوبهم لدعوة أخيهم نوح إذ قال لهم: ألا تتقون؟ وتخافون عاقبة ما أنتم فيه؟ وتستشعر قلوبكم خوف الله وخشيته؟
وهذا التوجيه إلى التقوى مطرد في هذه السورة، فهكذا قال الله عن فرعون وقومه لموسى وهو يكلفه التوجه إليهم، وهكذا قال نوح لقومه، وهكذا قال كل رسول لقومه من بعد نوح:
إني لكم رسول أمين .. لا يخون ولا يخدع ولا يغش، ولا يزيد شيئا أو ينقص شيئا مما كلفه من التبليغ.
فاتقوا الله وأطيعون .. وهكذا يعود إلى تذكيرهم بتقوى الله، ويحددها في هذه المرة، وينسبها إلى الله تعالى، ويستجيش بها قلوبهم إلى الطاعة والتسليم.
ثم يطمئنهم من ناحية الدنيا وأعراضها، فما له فيها من أرب بدعوتهم إلى الله، وما يطلب منهم أجرا جزاء هدايتهم إليه، فهو يطلب أجره من رب الناس الذي كلفه دعوة الناس؛ وهذا التنبيه على عدم طلب الأجر يبدو أنه كان دائما ضروريا للدعوة الصحيحة، تمييزا لها مما عهده الناس في الكهان ورجال الأديان من استغلال الدين لسلب أموال العباد؛ وقد كان الكهنة ورجال الدين المنحرفون دائما مصدر ابتزاز للأموال بشتى الأساليب، فأما دعوة الله الحقة فكان دعاتها دائما متجردين، لا يطلبون أجرا على الهدى، فأجرهم على رب العالمين.