[ ص: 2593 ] قال : رب المشرق والمغرب وما بينهما. إن كنتم تعقلون ..
والمشرق والمغرب مشهدان معروضان للأنظار كل يوم; ولكن القلوب لا تنتبه إليهما لكثرة تكرارهما، وشدة ألفتهما، واللفظ يدل على الشروق والغروب، كما يدل على مكاني الشروق والغروب، وهذان الحدثان العظيمان لا يجرؤ فرعون ولا غيره من المتجبرين أن يدعي تصريفهما، فمن يصرفهما إذن ومن ينشئهما بهذا الاطراد الذي لا يتخلف مرة ولا يبطئ عن أجله المرسوم؟ إن هذا التوجيه يهز القلوب البليدة هزا، ويوقظ العقول الغافلة إيقاظا. وموسى - عليه السلام - يثير مشاعرهم، ويدعوهم إلى التدبر والتفكير : " إن كنتم تعقلون " ..
والطغيان لا يخشى شيئا كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب; ولا يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة; ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية، ومن ثم ترى فرعون يهيج على موسى ويثور عندما يمس بقوله هذا أوتار القلوب؛ فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ بالبطش الصريح، الذي يعتمد عليه الطغاة عندما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين:
قال : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ..
هذه هي الحجة وهذا هو الدليل: التهديد بأن يسلكه في عداد المسجونين؛ فليس السجن عليه ببعيد، وما هو بالإجراء الجديد! وهذا هو دليل العجز، وعلامة الشعور بضعف الباطل أمام الحق الدافع؛ وتلك سمة الطغاة وطريقهم في القديم والجديد!
غير أن التهديد لم يفقد موسى رباطة جأشه، وكيف وهو رسول الله؟ والله معه ومع أخيه؟ فإذا هو يفتح الصفحة التي أراد فرعون أن يغلقها ويستريح، يفتحها بقول جديد، وبرهان جديد:
قال : أولو جئتك بشيء مبين؟ .
وحتى لو جئتك ببرهان واضح على صدق رسالتي فإنك تجعلني من المسجونين؟ وفي هذا إخراج لفرعون أمام الملإ الذين استمعوا لما سبق من قول موسى ; ولو رفض الإصغاء إلى برهانه المبين لدل على خوفه من حجته، وهو يدعي أنه مجنون؛ ومن ثم وجد نفسه مضطرا أن يطلب منه الدليل:
قال : فأت به إن كنت من الصادقين ..
إن كنت من الصادقين في دعواك أو إن كنت من الصادقين في أن لديك شيئا مبينا؛ فهو ما يزال يشكك في موسى ، خيفة أن تترك حجته في نفوس القوم شيئا.
هنا كشف موسى عن معجزتيه الماديتين وقد أخرهما حتى بلغ التحدي من فرعون أقصاه:
فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ..
والتعبير يدل على أن العصا تحولت فعلا إلى ثعبان تدب فيه الحياة، وأن يده حين نزعها كانت بيضاء فعلا؛ يدل على هذا بقوله: " فإذا هي" فلم يكن الأمر تخييلا، كما هو الحال في السحر الذي لا يغير طبائع الأشياء، إنما يخيل للحواس بغير الحقيقة.
ومعجزة الحياة التي تدب من حيث لا يعلم البشر، معجزة تقع في كل لحظة، ولكن الناس لا يلقون لها [ ص: 2594 ] بالا، لطول الألفة والتكرار، أو لأنهم لا يشهدون التحول على سبيل التحدي فأما في مثل هذا المشهد، وموسى - عليه السلام - يلقي في وجه فرعون بهاتين الخارقتين فالأمر يزلزل ويرهب.
وقد أحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها; فأسرع يقاومها ويدفعها; وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق القوم من حوله; ويهيج مخاوفهم من موسى وقومه، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة:
قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره، فماذا تأمرون؟ ..
وفي قولة فرعون هذه يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يسميها سحرا; فهو يصف صاحبها بأنه ساحر "عليم". ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به: يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره .ويبدو تضعضعه وتهاويه وتواضعه للقوم الذين يجعل نفسه لهم إلها، فيطلب أمرهم ومشورتهم: "فماذا تأمرون؟" ومتى كان فرعون يطلب أمر أتباعه وهم له يسجدون!
وتلك شنشنة الطغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم. عندئذ يلينون في القول بعد التجبر، ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام، ويتظاهرون بالشورى في الأمر وهم كانوا يستبدون بالهوى، ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر، ثم إذا هم هم جبابرة مستبدون ظالمون!
وأشار عليه الملأ وقد خدعتهم مكيدته، وهم شركاء فرعون في باطله، وأصحاب المصلحة في بقاء الأوضاع التي تجعلهم حاشية مقربة ذات نفوذ وسلطان; وقد خافوا أن يغلبهم موسى وبنو إسرائيل على أرضهم لو اتبعتهم الجماهير، حين ترى معجزتي موسى وتسمع إلى ما يقول، أشاروا عليه أن يلقى سحره بسحر مثله، بعد التهيئة والاستعداد :
قالوا : أرجه وأخاه. وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحار عليم ..
أي: أمهله وأخاه إلى أجل; وابعث رسلك إلى مدائن مصر الكبرى، يجمعون السحرة المهرة، لإقامة مباراة للسحر بينهم وبينه.
وهنا يسدل الستار على هذا المشهد ليرفع على مشهد السحرة يحشدون، والناس يجمعون للمباراة، وتبث فيهم الحماسة للسحرة ومن خلفهم من أصحاب السلطان وتهيأ أرض المباراة بين الحق والباطل، أو بين الإيمان والطغيان.
فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس: هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين؟ ..
وتظهر من التعبير حركة الإهاجة والتحميس للجماهير: هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة؟ هل لكم في التجمع وعدم التخلف عن الموعد، ليترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي! والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه الأمور، دون أن تفطن إلى أن حكامها الطغاة يلهون بها ويعبثون، ويشغلونها بهذه المباريات والاحتفالات والتجمعات، ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس، وهكذا تجمع المصريون ليشهدوا المباراة بين السحرة وموسى - عليه السلام!
ثم يجيء مشهد السحرة بحضرة فرعون قبل المباراة; يطمئنون على الأجر والمكافأة إن كانوا هم الغالبين; [ ص: 2595 ] ويتلقون من فرعون الوعد بالأجر الجزيل والقربى من عرشه الكريم!