وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون؟ قال رب إني أخاف أن يكذبون. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني، فأرسل إلى هارون. ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون. قال : كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون. فأتيا فرعون فقولا : إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بني إسرائيل ..
الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا القصص، بعد ما قال له في مطلع السورة: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين. إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين، وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين. فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون .. ثم أخذ يقص عليه أنباء المكذبين المعرضين المستهزئين، وما حاق بهم من العذاب الأليم.
وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين. قوم فرعون. ألا يتقون؟ ..
وهذا هو المشهد الأول: مشهد التكليف بالرسالة لموسى - عليه السلام - وهو يبدأ بإعلان صفة القوم : القوم الظالمين فقد ظلموا أنفسهم بالكفر والضلال، وظلموا بني إسرائيل بما كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ويعذبونهم بالسخرة والنكال؛ لذلك يقدم صفتهم ثم يعينهم قوم فرعون ثم يعجب موسى من أمرهم ويعجب كل إنسان : ألا يتقون؟ ألا يخشون ربهم؟ ألا يخافون مغبة ظلمهم؟ ألا يرجعون عن غيهم؟ ألا إن أمرهم لعجيب يستحق التعجيب! وكذلك كل من كان على شاكلتهم من الظالمين!
ولم يكن أمر فرعون وملئه جديدا على موسى - عليه السلام - فهو يعرفه، ويعرف ظلم فرعون وعتوه وجبروته، ويدرك أنها مهمة ضخمة وتكليف عظيم. ومن ثم يشكو إلى ربه ما به من ضعف وقصور لا ليتنصل أو يعتذر عن التكليف، ولكن ليطلب العون والمساعدة في هذا التكليف العسير.
قال : رب إني أخاف أن يكذبون. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون. ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون .
والظاهر من حكاية قوله - عليه السلام - أن خوفه ليس من مجرد التكذيب، ولكن من حصوله في وقت يضيق فيه صدره ولا ينطلق لسانه، فلا يملك أن يبين، وأن يناقش هذا التكذيب ويفنده. إذ كانت بلسانه حبسة هي التي قال عنها في سورة طه: واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ومن شأن هذه الحبسة أن تنشئ حالة من ضيق الصدر، تنشأ من عدم القدرة على تصريف الانفعال بالكلام، وتزداد كلما زاد الانفعال، فيزداد الصدر ضيقا، وهكذا وهي حالة معروفة، فمن هنا خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون، فشكا إلى ربه ضعفه وما يخشاه على تبليغ رسالته، وطلب إليه أن يوحي إلى هارون أخيه، ويشركه معه في الرسالة اتقاء للتقصير في أداء التكليف، لا نكوصا ولا اعتذارا عن التكليف، فهارون أفصح لسانا ومن ثم هو أهدأ انفعالا; فإذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان. ولقد دعا موسى ربه - كما ورد في سورة طه - ليحل هذه العقدة من لسانه، ولكنه زيادة في الاحتياط للنهوض بالتكليف طلب معه أخاه هارون وزيرا ومعينا..
[ ص: 2590 ] وكذلك الشأن في قوله : ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون .. فإن ذكره هنا ليس للخوف من المواجهة، والتخلي عن التكليف؛ ولكن له علاقة بالإرسال إلى هارون، حتى إذا قتلوه قام هارون من بعده بالرسالة، وأتم الواجب كما أمره ربه دون تعويق.
فهو الاحتياط للدعوة لا للداعية، الاحتياط من أن يحتبس لسانه في الأولى وهو في موقف المنافحة عن رسالة ربه وبيانها، فتبدو الدعوة ضعيفة قاصرة، والاحتياط من أن يقتلوه في الثانية فتتوقف دعوة ربه التي كلف أداءها وهو على إبلاغها واطرادها حريص، وهذا هو الذي يليق بموسى - عليه السلام - الذي صنعه الله على عينه، واصطنعه لنفسه.
ولما علمه ربه من حرصه هذا وإشفاقه واحتياطه أجابه إلى ما سأل، وطمأنه مما يخاف، والتعبير هنا يختصر مرحلة الاستجابة، ومرحلة الإرسال إلى هارون، ومرحلة وصول موسى إلى مصر ولقائه لهارون; ويبرز مشهد موسى وهارون مجتمعين يتلقيان أمر ربهما الكريم، في نفس اللحظة التي يطمئن الله فيها موسى ، وينفي مخاوفه نفيا شديدا، في لفظة تستخدم أصلا للردع وهي كلمة " كلا " !
قال : كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون. فأتيا فرعون فقولا : إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بني إسرائيل .
كلا. لن يضيق صدرك ويحتبس لسانك؛ وكلا لن يقتلوك؛ فأبعد هذا كله عن بالك بشدة، واذهب أنت وأخوك. فاذهبا بآياتنا وقد شهد موسى منها العصا واليد البيضاء - والسياق يختصر هاهنا لأن التركيز في هذه السورة موجه إلى موقف المواجهة وموقف السحرة وموقف الغرق والنجاة. اذهبا إنا معكم مستمعون فأية قوة؟ وأي سلطان؟ وأي حماية ورعاية وأمان؟ والله معهما ومع كل إنسان في كل لحظة وفي كل مكان، ولكن الصحبة المقصودة هنا هي صحبة النصر والتأييد، فهو يرسمها في صورة الاستماع؛ الذي هو أشد درجات الحضور والانتباه، وهذا كناية عن دقة الرعاية وحضور المعونة، وذلك على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.
اذهبا فأتيا فرعون فأخبراه بمهمتكما في غير حذر ولا تلجلج: فقولا: إنا رسول رب العالمين وهما اثنان ولكنهما يذهبان في مهمة واحدة برسالة واحدة؛ فهما رسول رب العالمين. في وجه فرعون الذي يدعي الألوهية، ويقول لقومه: ما علمت لكم من إله غيري فهي المواجهة القوية الصريحة بحقيقة التوحيد منذ اللحظة الأولى، بلا تدرج فيها ولا حذر؛ فهي حقيقة واحدة لا تحتمل التدرج والمداراة.