ويمضي السياق في مفاجآت القصة. فيطوي الزمان والمكان، لنلتقي في المشهد النهائي المؤثر المثير:
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه. وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ورفع أبويه على العرش، وخروا له سجدا، وقال: يا أبت، هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا، وقد أحسن بي إذ أخرجني [ ص: 2029 ] من السجن وجاء بكم من البدو، من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي. إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم ..
ويا له من مشهد! بعد كر الأعوام وانقضاء الأيام. وبعد اليأس والقنوط. وبعد الألم والضيق. وبعد الامتحان والابتلاء. وبعد الشوق المضني والحزن الكامد واللهف الظامئ الشديد.
يا له من مشهد حافل بالانفعال والخفقان والفرح والدموع!
ويا له من مشهد ختامي موصول بمطلع القصة: ذلك في ضمير الغيب وهذا في واقع الحياة. ويوسف بين هذا كله يذكر الله ولا ينساه:
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه، وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ..
ويذكر رؤياه ويرى تأويلها بين يديه في سجود إخوته له - وقد رفع أبويه على السرير الذي يجلس عليه - كما رأى الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين:
ورفع أبويه على العرش، وخروا له سجدا، وقال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ..
ثم يذكر نعمة الله عليه:
وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ..
ويذكر لطف الله في تدبيره لتحقيق مشيئته:
إن ربي لطيف لما يشاء ..
يحقق مشيئته بلطف ودقة خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها:
إنه هو العليم الحكيم ..
ذات التعبير الذي قاله يعقوب وهو يقص عليه رؤياه في مطلع القصة:
إن ربك عليم حكيم ..
ليتوافق البدء والختام حتى في العبارات.
وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير المثير، نشهد يوسف ينزع نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج والجاه والسلطان، والرغد والأمان ... ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر! كل دعوته - وهو في أبهة السلطان، وفي فرحة تحقيق الأحلام - أن يتوفاه ربه مسلما وأن يلحقه بالصالحين:
رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث. فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة. توفني مسلما وألحقني بالصالحين ..
رب قد آتيتني من الملك ..
آتيتني منه سلطانه ومكانه وجاهه وماله. فذلك من نعمة الدنيا.
وعلمتني من تأويل الأحاديث ..
بإدراك مآلاتها وتعبير رؤاها. فذلك من نعمة العلم.
[ ص: 2030 ] نعمتك يا ربي أذكرها وأعددها..
فاطر السماوات والأرض ..
بكلمتك خلقتها وبيدك أمرها، ولك القدرة عليها وعلى أهلها..
أنت وليي في الدنيا والآخرة ..
فأنت الناصر والمعين..
رب تلك نعمتك. وهذه قدرتك.
رب إني لا أسألك سلطانا ولا صحة ولا مالا. رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى:
توفني مسلما وألحقني بالصالحين ..
وهكذا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان. ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه.
إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير..