ثم يتوجه النظر إلى المشهد من ظاهره. فإذا هنالك حاجز يفصل بين الجنة والنار عليه رجال يعرفون أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلاماتهم.. فلننظر من هؤلاء، وما شأنهم مع أصحاب الجنة وأصحاب النار؟
وبينهما حجاب، وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم. ونادوا أصحاب الجنة: أن سلام عليكم.. لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، قالوا: ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون. أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؟ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ..
روي أن هؤلاء الرجال الذين يقفون على الأعراف - الحجاب الحاجز بين الجنة والنار - جماعة من البشر، تعادلت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تصل بهم تلك إلى الجنة مع أصحاب الجنة، ولم تؤد بهم هذه إلى النار مع أصحاب النار.. وهم بين بين، ينتظرون فضل الله ويرجون رحمته.. وهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم - ربما ببياض الوجوه ونضرتها أو بالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم - ويعرفون أهل النار بسيماهم - ربما بسواد الوجوه وقترتها، أو بالوسم الذي على أنوفهم التي كانوا يشمخون بها في الدنيا، كالذي جاء في سورة القلم:
سنسمه على الخرطوم ! وها هم أولاء يتوجهون إلى أهل الجنة بالسلام.. يقولونها وهم يطمعون أن يدخلهم الله الجنة معهم! .. فإذا وقعت أبصارهم على أصحاب النار - وكأنما يصرفون إليهم صرفا لا عن إرادة منهم - استعاذوا بالله أن يكون مصيرهم معهم! وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم. ونادوا أصحاب الجنة: أن سلام عليكم.. لم يدخلوها وهم يطمعون.. وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ..
ثم يبصرون برجال من كبار المجرمين معروفين لهم بسيماهم. فيتجهون إليهم بالتبكيت والتأنيب:
ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، قالوا: ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ! فها أنتم هؤلاء في النار، لا جمعكم نفعكم، ولا استكباركم أغنى عنكم! ثم يذكرونهم بما كانوا يقولونه عن المؤمنين في الدنيا من أنهم ضالون، لا ينالهم الله برحمة:
" أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة! " ! انظروا الآن أين هم؟ وماذا قيل لهم:
ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ..
وأخيرا. ها نحن أولاء نسمع صوتا آتيا من قبل النار، ملؤه الرجاء والاستجداء:
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ! [ ص: 1294 ] وها نحن أولاء نلتفت إلى الجانب الآخر نسمع الجواب ملؤه التذكير الأليم المرير:
قالوا: إن الله حرمهما على الكافرين. الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ..
ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى، لينطق رب العزة والجلالة، وصاحب الملك والحكم:
فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا. وما كانوا بآياتنا يجحدون. ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم، هدى ورحمة لقوم يؤمنون. هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل. قد خسروا أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون ..
وهكذا تتوالى صفحات المشهد جيئة وذهوبا.. لمحة في الآخرة ولمحة في الدنيا. لمحة مع المعذبين في النار، المنسيين كما نسوا لقاء يومهم هذا وكما جحدوا بآيات الله، وقد جاءهم بها كتاب مفصل مبين. فصله الله - سبحانه - على علم - فتركوه واتبعوا الأهواء والأوهام والظنون.. ولمحة معهم - وهم بعد في الدنيا - ينتظرون مآل هذا الكتاب وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير وهم يحذرون أن يجيئهم هذا المآل. فالمآل هو ما يرون في هذا المشهد من واقع الحال! إنها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض لا يجليها هكذا إلا هذا الكتاب العجيب! وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير ويجيء التعقيب عليه متناسقا مع الابتداء. تذكيرا بهذا اليوم ومشاهده، وتحذيرا من التكذيب بآيات الله ورسله، ومن انتظار تأويل هذا الكتاب فهذا هو تأويله، حيث لا فسحة لتوبة، ولا شفاعة في الشدة، ولا رجعة للعمل مرة أخرى.
نعم.. هكذا ينتهي الاستعراض العجيب. فنفيق منه كما نفيق من مشهد أخاذ كنا نراه.
ونعود منه إلى هذه الدنيا التي فيها نحن! وقد قطعنا رحلة طويلة طويلة في الذهاب والمجيء! إنها رحلة الحياة كلها، ورحلة الحشر والحساب والجزاء بعدها.. ومن قبل كنا مع البشرية في نشأتها الأولى، وفي هبوطها إلى الأرض وسيرها فيها! وهكذا يرتاد القرآن الكريم بقلوب البشر هذه الآماد والأكوان والأزمان. يريها ما كان وما هو كائن وما سيكون.. كله في لمحات.. لعلها تتذكر، ولعلها تسمع للنذير:
كتاب أنزل إليك، فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين. اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء، قليلا ما تذكرون ..