إني أراك وقومك في ضلال مبين وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم [ ص: 1136 ] ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون
[ ص: 1137 ] هذا الدرس بطوله لحمة واحدة ; يتناول موضوعا متصل الفقرات . . إنه يعالج الموضوع الأساسي في السورة - وهو بناء العقيدة على قاعدة من ، وما بينهما من ارتباطات - ولكنه يعالجه في أسلوب آخر غير ما جرى به السياق منذ أول السورة . . يعالجه في أسلوب القصص والتعقيب عليه . . مع استصحاب المؤثرات الموحية التي تزخر بها السورة ; ومنها مشهد الاحتضار الكامل السمات ; وذلك كله في نفس طويل رتيب يتوسط الموجات المتلاحقة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة . . التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية
والدرس - في جملته - يعرض موكب الإيمان الموصول منذ نوح - عليه السلام - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي مطلع هذا الموكب يستعرض حقيقة الألوهية - كما تتجلى في فطرة عبد من عباد الله الصالحين - إبراهيم عليه السلام - ويرسم مشهدا رائعا حقا للفطرة السليمة ، وهي تبحث عن إلهها الحق ، الذي تجده في أعماقها ، بينما هي تصطدم في الخارج بانحرافات الجاهلية وتصوراتها . إلى أن يخلص لها تصور حق ، يطابق ما ارتسم في أعماقها عن إلهها الحق . ويقوم على ما تجده في أطوائها من برهان داخلي هو أقوى وأثبت من المشهود المحسوس ! ذلك حين يحكي السياق عن إبراهيم عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه الحق ، واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منه : وحاجه قومه. قال: أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به، إلا أن يشاء ربي شيئا، وسع ربي كل شيء علما، أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا؟ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ .
ثم يمضي السياق مع موكب الإيمان الموصول ، يقوده الرهط الكريم من رسل الله على توالي العصور ; حيث يبدو شرك المشركين وتكذيب المكذبين لغوا لا وزن له ، يتناثر على جانبي الموكب الجليل ، الماضي في طريقه الموصول . وحيث يلتحم آخره مع أوله ; فيؤلف الأمة الواحدة ، يقتدي آخرها بالهدى الذي اهتدى به أولها ، دون اعتبار لزمان أو مكان ; ودون اعتبار لجنس أو قوم ، ودون اعتبار لنسب أو لون . . فالحبل الموصول بين الجميع هو هذا الدين الواحد الذي يحمله ذلك الرهط الكريم .
إنه مشهد رائع كذلك ; يبدو من خلال قول الله تعالى لرسوله الكريم بعد استعراض الموكب العظيم :
ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة. فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل: لا أسألكم عليه أجرا، إن هو إلا ذكرى للعالمين . .
وبعد استعراض هذا الموكب الجليل يجيء التنديد بمن يزعمون أن الله لم يرسل رسلا ، ولم ينزل على بشر كتابا . . إنهم لم يقدروا الله حق قدره . فما قدر الله حق قدره من يقول : إنه - سبحانه - تارك الناس لأنفسهم وعقولهم وما يتعاورها من الأهواء والشهوات والضعف والقصور . فما يليق هذا بألوهية الله وربوبيته ، وعلمه وحكمته وعدله ورحمته . . إنما اقتضت رحمة الله وعلمه ورحمته وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا ، وأن ينزل على بعض الرسل كتبا ، ليحاولوا جميعا هداية البشرية إلى بارئها ، واستنقاذ فطرتها من الركام الذي يرين عليها ، ويغلق منافذها ، ويعطل أجهزة الالتقاط والاستجابة فيها . . ويضرب مثلا الكتاب الذي أنزل على موسى . وهذا الكتاب الذي يصدق ما بين يديه من الكتب جميعا . .
وينتهي الدرس الطويل المتلاحم الفقرات . . وهي الدعاوى التي كان يدعيها بعض من يواجهون الدعوة الإسلامية ، وفيهم من ادعى الوحي وفيهم من ادعى النبوة . [ ص: 1138 ] وفي الختام يجيء مشهد الاحتضار المكروب للمشركين : باستنكار الافتراء ممن يفتري على الله ، وادعاء من يزعم أنه يوحى إليه من الله ، وادعاء القدرة على تنزيل مثل ما أنزل الله
ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء! لقد تقطع بينكم، وضل عنكم ما كنتم تزعمون! . .
وهو مشهد كئيب مكروب رعيب ; يجلله الهوان ويصاحبه التنديد والتأنيب . جزاء الاستكبار والإعراض والافتراء والتكذيب . .