وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن "المؤمنين" الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم ، فيعين من هم; ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم:
الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا. وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ..
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة.
وهم مثخنون بالجراح. وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة. وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة، ومرارة الهزيمة، وشدة الكرب. وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا، فقل عددهم، فوق ما هم مثخنون بالجراح! ولكن كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم. ودعاهم وحدهم. ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال! - فاستجابوا.. استجابوا لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي دعوة الله - من بعد ما أصابهم القرح ، ونزل بهم الضر، وأثخنتهم الجراح.
لقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم وحدهم. وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى، وتومئ إلى حقائق كبرى، نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم، هو شعور الهزيمة، وآلام البرح والقرح; فاستنهضهم لمتابعة قريش ، وتعقبها، كي يقر في أخلادهم أنها تجربة وابتلاء، وليست نهاية المطاف. وأنهم بعد ذلك أقوياء، وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء، إنما هي واحدة وتمضي، ولهم الكرة عليهم، متى نفضوا عنهم الضعف والفشل، واستجابوا لدعوة الله والرسول.
ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش ، وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته. فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس; يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا. وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها..
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة.
ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء أن يشعر المسلمين، وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم، بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض.. حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها.
ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها. عقيدة يعيشون لها وحدها، فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها، ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها، ولا يقدمونها فداها..
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين. ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنون - بقيام هذا الأمر الجديد، وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة. [ ص: 520 ] ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة: صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل - وكما هول المنافقون في أمر أبي سفيان قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا - :
الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل ..
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة. وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة..
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صور من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة:
قال : حدثني محمد بن إسحاق عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال: شهدنا أحدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخي، فرجعنا جريحين. فلما أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ - والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أيسر جراحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة.. حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال : محمد بن إسحاق كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه . جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام
فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع. وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن. ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسي.
فتخلف على إخوتك. فتخلفت عليهن.. فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج معه ..
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة، في تلك النفوس الكبيرة.
النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا، وترضى به وحده وتكتفي، وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس:
حسبنا الله، ونعم الوكيل ..
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه، المكتفين به، المتجردين له :
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله .
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله. وعادوا بالنجاة والرضى.
بنعمة من الله وفضل ..
فهنا يردهم إلى السبب الأولى في العطاء: نعمة الله وفضله على من يشاء. ومع التنويه بموقفهم الرائع، فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله، لأن هذا هو الأصل الكبير، الذي يرجع إليه كل فضل، وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل!.
والله ذو فضل عظيم .. [ ص: 521 ] بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد، وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله، صورتهم هذه، وموقفهم هذا، وهي صورة رفيعة، وهو موقف كريم.
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف، فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة.
نضجت. وتناسقت. واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها. وانجلى الغبش عن تصورها. وأخذت الأمر جدا كله. وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة، التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف. فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس.. والفارق هائل والمسافة بعيدة..
لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس; وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا. أطار الغبش، وأيقظ القلوب، وثبت الأقدام، وملأ النفوس بالعزم والتصميم..
نعم. وكان فضل الله عظيما في الابتلاء المرير..