[ ص: 513 ] ثم يمضي السياق خطوة في استعراض أحداث المعركة، والتعقيب عليها; فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور، واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم - وهم المسلمون - مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة، وتصوغهم صياغة واقعية، تتعامل مع واقع الأمر، وطبيعة السنن، وجدية هذا الواقع الذي لا يحابي أحدا لا يأخذ بالسنن، ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة! ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة; وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم! ..
ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة - التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية الحقيقة - بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج; وبمشيئة الله الطليقة من وراء السنن والقوانين; فيكشف لهم عن حكمة ما وقع، وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم، وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها; وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها، وليمحص قلوبهم، ويميز صفوفهم، من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث. فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره.. وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق:
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير. وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - : لو أطاعونا ما قتلوا. قل: فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين" ..
لقد ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم; وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم; وباستكمال العدة التي في طاقتهم، وببذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سنة الله. وسنة الله لا تحابي أحدا.. فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير. فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس. فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن، ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس.. كتب الله على نفسه النصر لأوليائه ، حملة رايته، وأصحاب عقيدته..
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدرا كذلك، ولا يضيع هباء. فإن استسلامهم لله، وحملهم لرايته، وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه.. من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرا وبركة في النهاية - بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح - وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروسا وتجارب، تزيد في نقاء العقيدة ، وتمحيص القلوب، وتطهير الصفوف; وتؤهل للنصر الموعود; وتنتهي بالخير والبركة..
ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته. بل تمدهم بزاد الطريق. مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق.
وبهذا الوضوح والصرامة معا يأخذ الله الجماعة المسلمة; وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع; ويكشف عن السبب القريب من أفعالها; كما يكشف عن الحكمة البعيدة من قدره - سبحانه - ويواجه المنافقين بحقيقة الموت، التي لا يعصم منها حذر ولا قعود:
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم. إن الله على كل شيء قدير ..
والمسلمون الذين أصيبوا في أحد بما أصيبوا; والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير; والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم، وهم المسلمون، وهم يجاهدون في سبيل الله، وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله.. المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة، كان قد سبق لهم أن [ ص: 514 ] أصابوا مثليها: أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش . وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة، حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم. وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين!.
ويذكرهم الله هذا كله، وهو يرد على دهشتهم المتسائلة، فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب:
قل: هو من عند أنفسكم ..
أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر. وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس. وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة.. فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم، بانطباق سنة الله عليكم، حين عرضتم أنفسكم لها. فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلما كان أو مشركا ، ولا تنخرق محاباة له، فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء!.
إن الله على كل شيء قدير ..
ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته، وأن يحكم ناموسه، وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته، وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث.
ومع هذا فقد كان قدر الله من وراء الأمر كله لحكمة يراها . وقدر الله دائما من وراء كل أمر يحدث، ومن وراء كل حركة وكل نأمة، وكل انبثاقة في هذا الكون كله:
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ... ..
لم يقع مصادفة ولا جزافا، ولم يقع عبثا ولا سدى. فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون; ومقدر لها علتها ونتائجها; وهي في مجموعها - ومع جريانها وفق السنن والقوانين الثابتة التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابي - تحقق الحكمة الكامنة وراءها; وتكمل "التصميم" النهائي للكون في مجموعه!.
إن التصور الإسلامي يبلغ من الشمول والتوازن في هذه القضية، ما لا يبلغه أي تصور آخر في تاريخ البشرية..
هنالك ناموس ثابت وسنن حتمية.. وهناك وراء الناموس الثابت والسنن الحتمية إرادة فاعلة ومشيئة طليقة.
وهناك وراء الناموس والسنن والإرادة والمشيئة حكمة مدبرة يجري كل شيء في نطاقها.. والناموس يتحكم والسنن تجري في كل شيء - ومن بينها الإنسان - والإنسان يتعرض لهذه السنن بحركاته الإرادية المختارة، وبفعله الذي ينشئه حسب تفكيره وتدبيره، فتنطبق عليه، وتؤثر فيه.. ولكن هذا كله يقع موافقا لقدر الله ومشيئته; ويحقق في الوقت ذاته حكمته وتقديره.. وإرادة الإنسان وتفكيره وحركته وفاعليته هي جزء من سنن الله وناموسه يفعل بها ما يفعل، ويحقق بها ما يحقق في نطاق قدره وتدبيره. فليس شيء منها خارجا على السنن والناموس. ولا مقابلا لها ومناهضا لفعلها، كما يتصور الذين يضعون إرادة الله وقدره في كفة، ويضعون إرادة الإنسان وفاعليته في الكفة المقابلة.. كلا. ليس الأمر هكذا في التصور الإسلامي.. فالإنسان ليس ندا لله، ولا عدوا له كذلك. والله - سبحانه - حين وهب الإنسان كينونته وفكره وإرادته وتقديره وتدبيره وفاعليته في الأرض، لم يجعل شيئا من هذا كله متعارضا مع سنته - سبحانه - ولا مناهضا لمشيئته، ولا خارجا كذلك عن الحكمة الأخيرة وراء قدره في هذا الكون الكبير.. ولكن جعل من سنته وقدره أن يقدر الإنسان ويدبر; وأن يتحرك ويؤثر; وأن يتعرض لسنة الله فتنطبق عليه; وأن يلقى جزاء هذا التعرض كاملا من لذة وألم، وراحة وتعب، وسعادة وشقاوة.. وأن يتحقق من وراء هذا التعرض ونتيجته، قدر الله المحيط [ ص: 515 ] بكل شيء، في تناسق وتوازن..
وهذا الذي وقع في غزوة أحد ، مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل. فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة . فخالفوا هم عن سنته وشرطه، فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له.. ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف، وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور، ومن ضعف أو قصور..
وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين - من وراء الألم والضر - وقد نالوه وفق سنة الله كذلك. فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج الله ويستسلمون له في عمومه، يعينهم الله ويرعاهم ، ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي - ولو ذاقوا مغبتها من الألم - لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد.
وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم، بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة، وهم يواجهون قدر الله، ويتعاملون مع سنته في الحياة; وهم يحسون أن الله يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده، وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها الله ما يشاء، وأن خطأهم وصوابهم - وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم - متساوق مع قدر الله وحكمته، وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق:
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله.. وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم. هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان. يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. والله أعلم بما يكتمون ..
وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول ، ومن معه، ويسميهم: الذين نافقوا ..
وقد كشفهم الله في هذه الموقعة، وميز الصف الإسلامي منهم. وقرر حقيقة موقفهم يومذاك: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان .. وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين. فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر، وإنما هم: يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم .. فقد كان في قلوبهم النفاق، الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة، وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها. فالذي كان برأس النفاق - عبد الله بن أبي - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ برأيه يوم أحد . والذي كان به قبل هذا أن قدومه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم، وجعل الرياسة لدين الله، ولحامل هذا الدين! .. فهذا الذي كان في قلوبهم، والذي جعلهم يرجعون يوم أحد ، والمشركون على أبواب المدينة ، وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق ، وهو يقول لهم: عبد الله بن عمرو بن حرام تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية:
والله أعلم بما يكتمون ..
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس:
الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - لو أطاعونا ما قتلوا ..
فهم لم يكتفوا بالتخلف - والمعركة على الأبواب - وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس، وبخاصة أن عبد الله بن أبي ، كان ما يزال سيدا في قومه، ولم يكشف لهم نفاقه بعد، ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم. بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة، وهم يقولون: [ ص: 516 ] لو أطاعونا ما قتلوا ..
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة، ويجعلون من طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه مغرما ومضرة. وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله ، ولحتمية الأجل، ولحقيقة الموت والحياة، وتعلقهما بقدر الله وحده.. ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع، الذي يرد كيدهم من ناحية، ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية:
قل: فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ..
فالموت يصيب المجاهد والقاعد، والشجاع والجبان . ولا يرده حرص ولا حذر. ولا يؤجله جبن ولا قعود.. والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء.. وهذا الواقع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم، فيرد كيدهم اللئيم، ويقر الحق في نصابه، ويثبت قلوب المسلمين. ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين..
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة، تأخيره ذكر هذا الحادث - حادث نكول عبد الله بن أبي ومن معه عن المعركة - وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها.. تأخيره إلى هذا الموضع من السياق..
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية .. فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها; وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها; وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها.. ثم يشير هذه الإشارة إلى الذين نافقوا . وفعلتهم وتصرفهم بعدها، وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح، وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح.. وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة، وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم، ووزن الأعمال والأشخاص، ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص - بعد ذلك - فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح، بذلك الحس الإيماني الصحيح..
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد. فعبد الله بن أبي كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه - كما أسلفنا - وقد ورم أنفه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه - لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة - وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم، وبلبلة في الأفكار، كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر.. فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله; وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها; وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق. مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح: الذين نافقوا والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة: ألم تر إلى الذين نافقوا؟ ، وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه، ليبقى نكره في: الذين نافقوا كما يستحق من يفعل فعلته، وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان.. ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق..