أما الحيوان فتختلف أجهزته باختلاف أنواعه وبيئاته وملابسات حياته..
"زودت أفواه الآساد والنمور والذئاب والضباع، وكل الحيوانات الكاسرة التي تعيش في الفلاة، ولا غذاء لها إلا ما تفترسه من كائنات لا بد من مهاجمتها، والتغلب عليها، بأنياب قاطعة، وأسنان حادة، وأضراس صلبة. ولما كانت في هجومها لا بد أن تستعمل عضلاتها، فلأرجلها عضلات قوية، سلحت بأظافر ومخالب حادة، وحوت معدتها الأحماض والأنزيمات الهاضمة للحوم والعظام".
فأما الحيوانات المجترة المستأنسة التي تعيش على المراعي، فهي تختلف فيما زودت به..
"وقد صممت أجهزتها الهاضمة بما يتناسب مع البيئة، فأفواهها واسعة نسبيا; وقد تجردت من الأنياب القوية والأضراس الصلبة. وبدلا منها توجد الأسنان التي تتميز بأنها قاصمة قاطعة; فهي تأكل الحشائش والنباتات بسرعة، وتبتلعها كذلك دفعة واحدة، حتى يمكنها أن تؤدي للإنسان ما خلقت لأجله من خدمات. وقد أوجدت العناية الخالقة لهذا الصنف أعجب أجهزة للهضم، فالطعام الذي تأكله ينزل إلى الكرش، وهو مخزن له، فإذا ما انتهى عمل الحيوان اليومي وجلس للراحة، يذهب الطعام إلى تجويف يسمى "القلنسوة". ثم يرجع إلى الفم، فيمضغ ثانية مضغا جيدا، حيث يذهب إلى تجويف ثالث يسمى "أم التلافيف" ، ثم إلى رابع يسمى "الإنفحة" وكل هذه العملية الطويلة أعدت لحماية الحيوان، إذ كثيرا ما يكون هدفا لهجوم حيوانات كاسرة في المراعي، فوجب عليه أن يحصل على غذائه بسرعة ويختفي. ويقول العلم : إن عملية الاجترار ضرورية بل وحيوية، إذ إن العشب من النباتات العسرة الهضم، لما يحتويه من السليلوز الذي يغلف جميع الخلايا النباتية، ولهضمه يحتاج الحيوان إلى وقت طويل جدا، فلو لم يكن مجترا، وبمعدته مخزن خاص، لضاع وقت طويل في الرعي، يكاد يكون يوما بأكمله، دون أن يحصل الحيوان على كفايته من الغذاء، ولأجهد العضلات في عمليات التناول والمضغ. إنما سرعة الأكل، ثم تخزينه وإعادته بعد أن يصيب شيئا من التخمر، ليبدأ المضغ والطحن والبلع، تحقق كافة أغراض الحيوان من عمل وغذاء وحسن هضم. فسبحان المدبر".
والطيور الجارحة كالبوم والحدأة ذات منقار مقوس حاد على شكل خطاف لتمزيق اللحوم. بينما للإوز والبط مناقير عريضة منبسطة مفلطحة كالمغرفة، توائم البحث عن الغذاء في الطين والماء. وعلى جانب المنقار [ ص: 3440 ] زوائد صغيرة كالأسنان لتساعد على قطع الحشائش.
أما الدجاج والحمام وباقي الطيور التي تلتقط الحب من الأرض فمناقيرها قصيرة مدببة لتؤدي هذا الغرض. بينما منقار البجعة مثلا طويل طولا ملحوظا، ويمتد من أسفله كيس يشبه الجراب ليكون كشبكة الصياد. إذ إن السمك هو غذاء البجعة الأساسي.
ومنقار الهدهد وأبو قردان طويل مدبب، أعد بإتقان للبحث عن الحشرات والديدان، التي غالبا ما تكون تحت سطح الأرض. ويقول العلم: إنه يمكن للإنسان أن يعرف غذاء أي طير من النظرة العابرة إلى منقاره.
"أما باقي الجهاز الهضمي للطير فهو غريب عجيب. فلما لم يعط أسنانا فقد خلقت له حوصلة وقانصة تهضم الطعام. ويلتقط الطير مواد صلبة وحصى لتساعد القانصة على هضم الطعام".
ويطول بنا الاستعراض، ونخرج على منهج هذه الظلال، لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو، فنسرع الخطى إلى "الإميبا" وهي ذات الخلية الواحدة، لنرى يد الله معها، وعينه عليها، وهو يقدر لها أمرها تقديرا.
"والإميبا كائن حي دقيق الحجم. يعيش في البرك والمستنقعات، أو على الأحجار الراسبة في القاع. ولا يرى بالعين إطلاقا. وهو يرى بالمجاهر، كتلة هلامية، يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات. فعند ما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد، تستعملها كالأقدام، للسير بها إلى المكان المرغوب. ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة. وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين، وتفرز عليه عصارة هاضمة، فتتغذى بالمفيد منها، أما الباقي فتطرده من جسمها! وهي تتنفس من كل جسمها بأخذ الأكسوجين من الماء.. فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقا بالعين، يعيش ويتحرك، ويتغذى ويتنفس، ويخرج فضلاته! فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين، ليكون كل قسم حيوانا جديدا"..
وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير ، والتقدير فيها لا يقل ظهورا وبروزا عنه في تلك الأحياء. وخلق كل شيء فقدره تقديرا ..
على أن الأمر أعظم من هذا كله وأشمل في التقدير والتدبير. إن حركة هذا الكون كله بأحداثها ووقائعها وتياراتها مقدرة مدبرة صغيرها وكبيرها. كل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس فرد، ككل نفس يخرج من صدر! إن هذا النفس مقدر في وقته، مقدر في مكانه، مقدر في ظروفه كلها، مرتبط بنظام الوجود وحركة الكون، محسوب حسابه في التناسق الكوني، كالأحداث العظام الضخام!
وهذا العود البري النابت وحده هناك في الصحراء.. إنه هو الآخر قائم هناك بقدر. وهو يؤدي وظيفة ترتبط بالوجود كله منذ كان! وهذه النملة الساربة وهذه الهباءة الطائرة. وهذه الخلية السابحة في الماء. كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء!
تقدير في الزمان، وتقدير في المكان، وتقدير في المقدار، وتقدير في الصورة. وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال.
[ ص: 3441 ] من ذا الذي يذكر مثلا أن زواج يعقوب من امرأة أخرى هي أم يوسف وبنيامين أخيه، لم يكن حادثا شخصيا فرديا.. إنما كان قدرا مقدورا ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه، فيأخذوه فيلقوه في الجب - ولا يقتلوه - لتلتقطه السيارة. لتبيعه. في مصر. لينشأ في قصر العزيز. لتراوده امرأة العزيز عن نفسه. ليستعلي على الإغراء.
ليلقى في السجن..لماذا؟ ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك. ليفسر لهما الرؤيا..لماذا؟ إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب! ويقف ناس من الناس يسألون: لماذا؟ لماذا يا رب يتعذب يوسف؟ لماذا يا رب يتعذب يعقوب؟ لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن؟ ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم، المنوع الأشكال؟ لماذا؟ .. ولأول مرة تجيء أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب، لأن القدر يعده ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة في سني القحط السبعة! ثم ماذا؟ ثم ليستقدم أبويه وإخوته. ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل. ليضطهدهم فرعون. لينشأ من بينهم موسى - وما صاحب حياته من تقدير وتدبير - لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات يعيش العالم فيها اليوم بكليته! وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه!
ومن ذا الذي يذكر مثلا أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية لم يكن حادثا شخصيا فرديا. إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق ومروره بمصر، ليأخذ منها هاجر، لتلد له إسماعيل. ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم. لينشأ محمد - صلى الله عليه وسلم - من نسل إبراهيم - عليه السلام - في هذه الجزيرة. أصلح مكان على وجه الأرض لرسالة الإسلام.. ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام!
إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد. لكل حادث. ولكل نشأة. ولكل مصير. ووراء كل نقطة، وكل خطوة، وكل تبديل أو تغيير.
إنه قدر الله النافذ، الشامل، الدقيق، العميق.
وأحيانا يرى البشر طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد. وأحيانا يتطاول الزمن بين المبدإ والمصير في عمرهم القصير، فتخفى عليهم حكمة التدبير. فيستعجلون ويقترحون. وقد يسخطون. أو يتطاولون!
والله يعلمهم في هذا القرآن أن كل شيء بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر، وتطمئن قلوبهم وتستريح ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق، وفي أنس بصحبة القدر في خطوه المطمئن الثابت الوثيق..
ومع التقدير والتدبير، القدرة التي تفعل أعظم الأحداث بأيسر الإشارات:
وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ..
فهي إشارة واحدة. أو كلمة واحدة يتم بها كل أمر: الجليل والصغير سواء. وليس هنالك جليل ولا صغير. إنما ذلك تقدير البشر للأشياء. وليس هنالك زمن ولا ما يعادل لمح البصر. إنما هو تشبيه لتقريب الأمر إلى حس البشر. فالزمن إن هو إلا تصور بشري ناشئ من دورة أرضهم الصغيرة، ولا وجود له في حساب الله المطلق من هذه التصورات المحدودة!
واحدة تنشئ هذا الوجود الهائل. وواحدة تبدل فيه وتغير. وواحدة تذهب به كما يشاء الله. وواحدة تحيي كل حي. وواحدة تذهب به هنا وهناك. وواحدة ترده إلى الموت. وواحدة تبعثه في صورة من الصور. وواحدة تبعث الخلائق جميعا. وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب.
[ ص: 3442 ] واحدة لا تحتاج إلى جهد، ولا تحتاج إلى زمن. واحدة فيها القدرة ومعها التقدير. وكل أمر معها مقدر ميسور.
وبواحدة كان هلاك المكذبين على مدار القرون. وفي هذه يذكرهم بمصير أمثالهم من المكذبين:
ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر؟ وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر .
فهذه مصارع المكذبين، معروضة في الحلقات التي تضمنتها السورة من قبل.. فهل من مدكر؟ .. يتذكر ويعتبر؟
ولم ينته حسابهم بمصارعهم الأليمة، فوراءهم حساب لا يفلت منه شيء: وكل شيء فعلوه في الزبر .. مسطر في الصحائف ليوم الحساب: وكل صغير وكبير مستطر .. لا ينسى منه شيء وهو مسطور في كتاب!
وعند هذا الحد من العرض والتعقيب، يلتفت السياق إلى صفحة أخرى غير صفحة المكذبين. ويعرض صورة أخرى في ظل وادع أمين. صورة المتقين:
إن المتقين في جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر ..
ذلك بينما المجرمون في ضلال وسعر. يسحبون في النار على وجوههم في مهانة. ويلذعون بالتأنيب كما يلذعون بالسعير: ذوقوا مس سقر ..
وهي صورة للنعيم بطرفيه: في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
نعيم الحس والجوارح في تعبير جامع شامل: في جنات ونهر يلقي ظلال النعماء واليسر حتى في لفظه الناعم المنساب.. وليس لمجرد إيقاع القافية تجيء كلمة "نهر" بفتح الهاء. بل كذلك لإلقاء ظل اليسر والنعومة في جرس اللفظ وإيقاع التعبير!
ونعيم القلب والروح. نعيم القرب والتكريم: في مقعد صدق عند مليك مقتدر .. فهو مقعد ثابت مطمئن، قريب كريم، مأنوس بالقرب، مطمئن بالتمكين. ذلك أنهم المتقون. الخائفون. المترقبون.
والله لا يجمع على نفس خوفين: خوفها منه في الدنيا، وخوفها يوم القيامة. فمن اتقاه في العاجلة أمنه في الآجلة. ومع الأمان في أفزع موطن، يغمره بالأنس والتكريم.
وعند هذا الإيقاع الهادئ، في هذا الظل الآمن، تنتهي السورة التي حفلت حلقاتها بالفزع والكرب والأخذ والتدمير. فإذا للظل الآمن والإيقاع الهادئ طعم وروح أعمق وأروح.. وهذه هي التربية الكاملة. تربية العليم الحكيم بمسارب النفوس ومداخل القلوب. وهذا هو التقدير الدقيق لخالق كل شيء بقدر، وهو اللطيف الخبير..