قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين
قال الله استئناف كما سبق .
إني منزلها عليكم ورود الإجابة منه تعالى بصيغة التفعيل المنبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه السلام بصيغة الإفعال ، لإظهار كمال [ ص: 99 ] اللطف والإحسان ، كما في قوله تعالى : قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ... إلخ ، بعد قوله تعالى : لئن أنجانا من هذه ... إلخ ، مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين .
وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسما ، تحقيق للوعد وإيذان بأنه تعالى منجز له لا محالة ، من غير صارف يثنيه ، ولا مانع يلويه ، وإشعار بالاستمرار ; أي : إني منزل المائدة عليكم مرات كثيرة ، وقرئ بالتخفيف ، وقيل : الإنزال والتنزيل بمعنى واحد .
فمن يكفر بعد ; أي : بعد تنزيلها .
منكم متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل " يكفر " .
فإني أعذبه بسبب كفره بعد معاينة هذه الآية الباهرة .
عذابا اسم مصدر بمعنى التعذيب . وقيل : مصدر بحذف الزوائد ، وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين ، وجوز أن يكون مفعولا به على الاتساع .
وقوله تعالى : لا أعذبه في محل النصب على أنه صفة لعذابا والضمير له ; أي : أعذبه تعذيبا لا أعذب مثل ذلك التعذيب .
أحدا من العالمين ; أي : من عالمي زمانهم ، أو من العالمين جميعا . قيل : لما سمعوا هذا الوعيد الشديد ، خافوا أن يكفر بعضهم ، فاستعفوا وقالوا : لا نريدها ، فلم تنزل ، وبه قال مجاهد رحمهما الله ، والصحيح الذي عليه جماهير الأمة ومشاهير الأئمة ، أنها قد نزلت . والحسن
روي أنه عليه السلام لما دعا بما دعا ، وأجيب بما أجيب ، إذا بسفرة حمراء نزلت بين غمامتين ، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة للعالمين ، ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، ثم قام وتوضأ ، وصلى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين ; فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما ، وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد ، فقال شمعون رأس الحواريين : يا روح الله ; أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة ؟ قال : ليس منهما ، ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا ، يمددكم الله ويزدكم من فضله ، فقالوا : يا روح الله ; لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال : يا سمكة احيي بإذن الله ، فاضطربت ، ثم قال لها : عودي كما كنت ، فعادت مشوية ، ثم طارت المائدة ، ثم عصوا ، فمسخوا قردة وخنازير .
وقيل : كانت تأتيهم أربعين يوما غبا ، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء ، والصغار والكبار ، يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت ، وهم ينظرون في ظلها ، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره ، ولا مريض إلا برئ ولم يمرض أبدا ، ثم أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء ، فاضطربت الناس لذلك ، فمسخ منهم من مسخ ، فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ، ويأكلون العذرة في الحشوش ، فلما رأى الناس ذلك ، فزعوا إلى عيسى عليه الصلاة والسلام وبكوا على الممسوخين ، فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت ، وجعلت تطيف به ، وجعل يدعوهم بأسمائهم واحد بعد واحد ، فيبكون ويشيرون برءوسهم ، ولا يقدرون على الكلام ، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا .
وروي عن رضي الله عنهما : أن ابن عباس عيسى عليه السلام قال لهم : صوموا ثلاثين يوما ، ثم سلوا الله ما شئتم يعطكم ، فصاموا ، فلما فرغوا قالوا : إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا ، وسألوا الله تعالى المائدة ، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .
قال : نزلت منكوسة تطير بها [ ص: 100 ] الملائكة بين السماء والأرض ، عليها كل الطعام إلا اللحم . كعب
وقال : كان عليها ثمر من ثمار الجنة . قتادة
وقال عطية العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء .
وقال : نزلت سمكة وخمسة أرغفة ، فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألف ونيف ، فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا الحديث ، ضحك منهم من لم يشهد وقالوا : ويحكم ، إنما سحر أعينكم ; فمن أراد الله به الخير ثبته على بصيرة ، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره ، فمسخوا خنازير ، فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا ، ولم يتوالدوا ، ولم يأكلوا ، ولم يشربوا ، وكذلك كل ممسوخ . الكلبي