ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل بمراعاة [ ص: 60 ] ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ومبشرات بعثته ، فإن إقامتهما إنما تكون بذلك ، لا بمراعاة جميع ما فيهما من الأحكام ، لانتساخ بعضها بنزول القرآن ، فليست مراعاة الكل من إقامتهما في شيء .
وما أنزل إليهم من ربهم من القرآن المجيد المصدق لكتبهم ، وإيراده بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم ، لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل . وتقديم " إليهم " لما مر من قبل ، وفي إضافة " الرب " إلى ضمير " هم " مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة . وقيل : المراد بما أنزل إليهم : كتب أنبياء بني إسرائيل ، مثل : كتاب شعياء ، وكتاب حنقوق ، وكتاب دانيال ; فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه صلى الله عليه وسلم .
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ; أي : لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات السماء والأرض ، أو بأن يكثر ثمرات الأشجار وغلال الزروع ، أو بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار ، فيجتنوا ما تهدل منها من رءوس الأشجار ، ويلتقطوا ما تساقط منها على الأرض .
وقيل : المراد : المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين ، كأنه قيل : لأكلوا من كل جهة ، ومفعول " أكلوا " محذوف لقصد التعميم ، أو للقصد إلى نفس الفعل ، كما في قوله : فلان يعطي ويمنع . و" من " في الموضعين لابتداء الغاية ، وفي هاتين الشرطيتين من حثهم على ما ذكر من الإيمان والتقوى ، والإقامة بالوعد بنيل سعادة الدارين ، وزجرهم عن الإخلال بما ذكر ببيان إفضائه إلى الحرمان عنها ، وتنبيههم على أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم ، لا لقصور في فيض الفياض ما لا يخفى .
منهم أمة مقتصدة جملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء ، وإقامة الكتب المنزلة من أهل الكتاب ، كأنه قيل : هل كلهم كذلك مصرون على عدم الإيمان ... إلخ ؟ فقيل : " منهم أمة مقتصدة " ; إما على أن " منهم " مبتدأ باعتبار مضمونه ; أي : بعضهم أمة ، وإما بتقدير الموصوف ; أي : بعض كائن منهم ، كما مر في قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله الآية ; أي : طائفة معتدلة ، وهم المؤمنون منهم ، وأضرابه ، وثمانية وأربعون من النصارى . وقيل : طائفة : حالهم أمم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . كعبد الله بن سلام
وكثير منهم مبتدأ لتخصصه بالصفة ، خبره ساء ما يعملون ; أي : مقول في حقهم هذا القول ; أي : بئسما يعملون ، وفيه معنى التعجب ; أي : ما أسوأ عملهم من العناد والمكابرة ، وتحريف الحق والإعراض عنه ، والإفراط في العداوة ، وهم الأجلاف المتعصبون ، ككعب بن الأشرف وأشباهه ، والروم .