وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم
وما جعله الله كلام مبتدأ غير داخل في حيز القول مسوق من جنابه تعالى لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير وأن حقيقة النصر مختص به عز وجل ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته ، معطوف على فعل مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، فإن الإخبار بوقوع النصر على الإطلاق وتذكير وقته وحكاية الوعد بوقوعه على وجه مخصوص هو الإمداد بالملائكة مرة بعد أخرى، وتعيين وقته فيما مضى يقضي بوقوعه حينئذ قضاء قطعيا لكن لم يصرح به تعويلا على تعاضد الدلائل وتآخذ الأمارات والمخايل وإيذانا بكمال الغنى عنه بل احترازا عن شائبة التكرير أو عن إيهام احتمال الخلف في الوعد المحتوم، كأنه قيل عقيب قوله تعالى: يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين فأمدكم بهم( وما جعله الله إلخ... والجعل متعد إلى واحد وهو الضمير العائد إلى مصدر ذلك الفعل المقدر، وأما عوده إلى المصدر المذكور أعني: قوله تعالى: أن يمدكم أو إلى المصدر المدلول عليه بقوله تعالى: يمددكم كما قيل، فغير حقيق بجزالة التنزيل لأن الهيئة البسيطة متقدمة على المركبة، فبيان العلة الغائبة لوجود الإمداد كما هو المراد بالنظم الكريم حقه أن يكون بعد بيان وجوده في نفسه، ولا ريب في أن المصدرين المذكورين غير معتبرين من حيث الوجود والوقوع كمصدر الفعل المقدر حتى يتصدى لبيان أحكام وجودهما بل الأول معتبر من حيث الكفاية، والثاني من حيث الوعد، على أن الأول هو الإمداد بثلاثة آلاف والواقع هو الإمداد بخمسة آلاف. وقوله تعالى: إلا بشرى لكم استثناء مفرغ من أعم العلل وتلوين الخطاب لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى البشارة وتسكين القلوب بتوفيق الأسباب الظاهرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غني عنه بماله من التأييد الروحاني، أي: وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون. ولتطمئن قلوبكم به أي: بالإمداد وتسكن إليه كما كانت السكينة لبني إسرائيل كذلك، فكلاهما علة غائية للجعل، وقد نصب الأول لاجتماع شرائطه من اتحاد الفاعل والزمان وكونه مصدرا مسوقا للتعليل وبقي الثاني على حاله لفقدانها. وقيل: للإشارة أيضا إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وفي قصر الإمداد عليهما إشعار بأن الملائكة عليهم السلام لم يباشروا يومئذ القتال وإنما كان إمدادهم بتقوية قلوب المباشرين بتكثير السواد ونحوه كما هو رأي بعض السلف رضي الله عنه. وقيل: الجعل متعد إلى [ ص: 82 ] اثنين، وقوله عز وجل: إلا بشرى لكم استثناء من أعم المفاعيل، أي: وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم، فاللام في قوله تعالى: ولتطمئن متعلقة بمحذوف تقديره: ولتطمئن قلوبكم به فعل ذلك. وما النصر أي: حقيقة النصر على الإطلاق فيندرج في حكمه النصر المعهود اندراجا أوليا. إلا من عند الله أي: إلا كائن من عنده تعالى من غير أن يكون فيه شركة من جهة الأسباب والعدد وإنما هي مظاهر له بطريق جريان سنته تعالى أو وما النصر المعهود إلا من عنده تعالى لا من عند الملائكة فإنهم بمعزل من التأثير وإنما قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب. العزيز أي: الذي لا يغالب في حكمه وأقضيته ، وإجراء هذا الوصف عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاص النصر به تعالى كما أن وصفه بقوله: الحكيم أي: الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة للإيذان بعلة جعل النصر بإنزال الملائكة فإن ذلك من مقتضيات الحكم البالغة.