ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون
ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم من الأبواب المتفرقة من البلد، قيل: كانت له أربعة أبواب فدخلوا منها، وإنما اكتفي بذكره لاستلزامه الانتهاء عما نهوا عنه ما كان ذلك الدخول يغني فيما سيأتي عند وقوع ما وقع عنهم عن الداخلين؛ لأن المقصود به استدفاع الضرر عنهم، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقيق المقارنة الواجبة بين جواب لما ومدخوله، فإن عدم الإغناء بالفعل إنما يتحقق عند نزول المحذور لا وقت الدخول، وإنما المتحقق حينئذ ما أفاده الجمع المذكور من عدم كون الدخول المذكور مغنيا فيما سيأتي، فتأمل.
من الله من جهته من شيء أي: شيئا مما قضاه عليهم، مع كونه مظنة لذلك في بادي الرأي، حيث وصاهم به يعقوب - عليه السلام - وعملوا بموجبه واثقين بجدواه من فضل الله تعالى، فليس المراد بيان سببية الدخول المذكور لعدم الإغناء، كما في قوله تعالى: فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا فإن مجيء النذير هناك سبب لزيادة نفورهم، بل بيان عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعة في بادي الرأي، كما في قولك: حلف أن يعطيني حقي عند حلول الأجل فلما حل لم يعطني شيئا، فإن المراد بيان عدم سببية حلول الأجل للإعطاء مع كونها مرجوة بموجب الحلف لا بيان سببيته لعدم الإعطاء، فالمآل بيان عدم ترتب الغرض المقصود على التدبير المعهود مع كونه مرجو الوجود لا بيان ترتب عدمه عليه.
ويجوز أن يراد ذلك أيضا بناء على ما ذكره - عليه السلام - في تضاعيف وصيته من أنه لا يغني عنهم من الله شيئا، فكأنه قيل: ولما فعلوا ما وصاهم به لم يفد ذلك شيئا ووقع الأمر، حسبما قال - عليه السلام - فلقوا ما لقوا، فيكون من باب وقوع المتوقع، فتأمل.
إلا حاجة استثناء منقطع، أي ولكن حاجة وحرازة كائنة في نفس يعقوب قضاها أي: أظهرها ووصاهم بها دفعا للخاطرة، غير معتقد أن للتدبير تأثيرا في تغيير التقدير، وقد جعل ضمير الفاعل في (قضاها) للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب ، وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة، فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئا، ولكن قضى حاجة حاصلة في نفس يعقوب بوقوعه حسب إرادته، فالاستثناء منقطع أيضا، وعلى التقديرين لم يكن للتدبير فائدة سوى دفع الخاطرة، وأما إصابة العين فإنما لم تقع لكونها غير مقدرة عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقتضية عليهم.
وإنه لذو علم جليل لما علمناه لتعليمنا إياه بالوحي، ونصب الأدلة، حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر، وأن التدبير له حظ من التأثير حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر، أو حيث بت القول بأنه لا يغني عنهم من الله شيئا، فكان الحال كما قال، وفي تأكيد الجملة بإن واللام وتنكير العلم، وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدلالة على جلالة شأن يعقوب - عليه السلام - وعلو مرتبة علمه وفخامته - ما لا يخفى.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون أسرار القدر، ويزعمون أنه يغني عنه الحذر، وأما ما يقال من أن المعنى لا يعلمون إيجاب الحذر مع أنه لا يغني شيئا من القدر فيأباه مقام بيان تخلف المطلوب عن المبادئ.