[ ص: 135 ] وقالت اليهود يد الله مغلولة أي هو ممسك يقتر بالرزق وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا قصد فيه إلى إثبات يد وغل وبسط ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده
ونظيره من المجازات المركبة: شابت لمة الليل. وقيل معناه إنه فقير لقوله تعالى: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا دعاء عليهم بالبخل والنكد أو بالفقر والمسكنة، أو بغل الأيدي حقيقة يغلون أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة فتكون المطابقة من حيث اللفظ وملاحظة الأصل كقولك: سبني سب الله دابره. بل يداه مبسوطتان ثنى اليد مبالغة في الرد ونفي البخل عنه تعالى وإثباتا لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه، وتنبيها على منح الدنيا والآخرة وعلى ما يعطي للاستدراج وما يعطي للإكرام. ينفق كيف يشاء تأكيد لذلك أي هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته، لا على تعاقب سعة وضيق في ذات يد، ولا يجوز جعله حالا من الهاء للفصل بينهما بالخبر ولأنها مضاف إليها، ولا من اليدين إذ لا ضمير لهما فيه ولا من ضميرهما لذلك. والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال ذلك لما كف الله عن اليهود ما بسط عليهم من السعة بشؤم تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأشرك فيه الآخرون لأنهم رضوا بقوله: وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا أي هم طاغون كافرون ويزدادون طغيانا وكفرا بما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء. وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم. كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم وإثارة شر عليه ردهم الله سبحانه وتعالى بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين، وللحرب صلة أوقدوا أو صفة نارا.
ويسعون في الأرض فسادا أي للفساد وهو اجتهادهم في الكيد وإثارة الحروب والفتن وهتك المحارم.
والله لا يحب المفسدين فلا يجازيهم إلا شرا.