لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم [ ص: 280 ] مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم
وصف الله شدة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام ، وجعل ، بل نبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا ، وكذلك فعل في قوله : اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا [البقرة : 96] ولعمري إنهم لكذلك وأشد ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : "ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله" وعلل [ ص: 281 ] سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهبانا أي : علماء وعبادا وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم ، واليهود على خلاف ذلك ، وفيه دليل بين على أن وأدله على الفوز حتى علم القسيسين ، وكذلك غم الآخرة والتحدث بالعاقبة وإن كان في راهب ، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني ، ووصفهم الله برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن ، وذلك نحو ما يحكى عن التعلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير - رضي الله عنه - أنه قال النجاشي - حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى لجعفر بن أبي طالب الحبشة والمشركون - لعنوا - وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده - : هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال فيه سورة تنسب إليها ، فقرأها إلى قوله : جعفر : ذلك عيسى ابن مريم [مريم : 34] وقرأ سورة طه إلى قوله وهل أتاك حديث موسى [طه : 9] فبكى وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلا حين قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس . فبكوا . فإن قلت : بم تعلقت اللام في قوله : النجاشي للذين آمنوا قلت : بـ “ عداوة" و “ مودة" ، على أن عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشد العداوات وأظهرها ، وأن مودة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودات ، وأدناها وجودا ، وأسهلها حصولا ، ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودة مما يؤذن بالتفاوت ، ثم وصف العداوة والمودة بالأشد والأقرب . فإن قلت : ما معنى قوله : تفيض من الدمع قلت : معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض أن [ ص: 282 ] يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء ، وهو من إقامة المسبب مقام السبب ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها ، أي : تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعا فإن قلت : أي فرق بين "من" و “ من" في قوله : مما عرفوا من الحق : ؟ قلت : الأولى لابتداء الغاية ، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وبسببه ، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق ، فأبكاهم وبلغ منهم ، فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ وقرئ "ترى أعينهم" على البناء للمفعول ربنا آمنا : المراد به إنشاء الإيمان ، والدخول فيه فاكتبنا مع الشاهدين مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة لتكونوا شهداء على الناس [البقرة : 143] وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك وما لنا لا نؤمن بالله : إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين ، وقيل : لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك . أو أرادوا : وما لنا لا نؤمن بالله وحده لأنهم كانوا مثلثين ، وذلك ليس بإيمان بالله ، ومحل "لا نؤمن" النصب على الحال ، بمعنى : غير مؤمنين ، كقولك : ما لك قائما ، والواو في ، "ونطمع" واو الحال . فإن قلت : ما العامل في الحال الأولى والثانية؟ قلت : العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل ، كأنه قيل : أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ، وفي الثانية معنى هذا الفعل ، ولكن مقيدا بالحال الأولى; لأنك لو أزلتها وقلت : وما لنا ونطمع ، لم يكن كلاما ، ويجوز أن يكون "ونطمع" حالا من "لا نؤمن" ، على أنهم أنكروا على نفوسهم أنهم لا يوحدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين ، وأن يكون معطوفا على لا نؤمن على معنى : وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين ، أو على معنى : وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام ، لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين . قرأ الحسن : "فآتاهم" بما قالوا : بما تكلموا به [ ص: 283 ] عن اعتقاد وإخلاص ، من قولك : هذا قول فلان ، أي : اعتقاده وما يذهب إليه .