وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون .
"وإذ": نصب بإضمار اذكر، ويجوز أن ينتصب بقالوا، والملائكة: جمع ملأك على الأصل، كالشمائل في جمع شمأل، وإلحاق التاء لتأنيث الجمع، و"جاعل" من (جعل) الذي له مفعولان، دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله: في الأرض خليفة فكانا مفعوليه، ومعناه مصير في الأرض خليفة، والخليفة: من يخلف غيره، والمعنى: خليفة منكم; لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته.
فإن قلت: فهلا قيل: خلائف، أو خلفاء؟ قلت: أريد بالخليفة آدم، واستغني بذكره عن ذكر بنيه كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك: مضر وهاشم. أو أريد من يخلفكم، أو خلفا يخلفكم فوحد لذلك، وقرئ: (خليقة) بالقاف، ويجوز أن يريد: خليفة مني; لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي: إنا جعلناك خليفة في الأرض [ص: 26].
فإن قلت: لأي غرض [ ص: 252 ] أخبرهم بذلك؟ قلت: ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم؛ صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم، وقيل: ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة.
أتجعل فيها : تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير، ولا يريد إلا الخير.
فإن قلت: من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه وإنما هو غيب؟ قلت: عرفوه بإخبار من الله، أو من جهة اللوح، أو ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم، أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة، وقرئ: (يسفك) بضم الفاء، ويسفك ويسفك من أسفك وسفك، والواو في "ونحن" للحال، كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان، والتسبيح: تبعيد الله عن السوء، وكذلك تقديسه، من سبح في الأرض والماء، وقدس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد، و"بحمدك" في موضع الحال، أي نسبح حامدين لك وملتبسين بحمدك; لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك، أعلم ما لا تعلمون أي: أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم.
فإن قلت: هلا بين لهم تلك المصالح؟ قلت: كفى العباد أن يعلموا أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة، وإن خفي عليهم وجه الحسن والحكمة، على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أتبعه من قوله: وعلم آدم الأسماء كلها .
واشتقاقهم "آدم" من الأدمة، ومن أديم الأرض، نحو اشتقاقهم: "يعقوب" من العقب، و"إدريس" من الدرس، و"إبليس" من الإبلاس، وما آدم إلا اسم أعجمي، وأقرب أمره أن يكون على فاعل، كآزر، وعازر، وعابر، وشالخ، وفالغ، وأشباه ذلك.
الأسماء كلها أي: أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء; لأن الاسم [ ص: 253 ] لا بد له من مسمى، وعوض منه اللام كقوله: واشتعل الرأس [مريم: 4].
فإن قلت: هلا زعمت أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وأن الأصل: وعلم آدم مسميات الأسماء؟ قلت: لأن التعليم وجب تعليقه بالأسماء لا بالمسميات، لقوله: أنبئوني بأسماء هؤلاء ، أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم فكما علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ولم يقل: أنبئوني بهؤلاء، وأنبئهم بهم، وجب تعليق التعليم بها.
فإن قلت: فما معنى تعليمه أسماء المسميات؟ قلت: أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية.
ثم عرضهم أي: عرض المسميات، وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم، وإنما استنبأهم - وقد علم عجزهم عن الإنباء - على سبيل التبكيت.
إن كنتم صادقين يعني في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء؛ إرادة للرد عليهم، وأن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا، فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله: إني أعلم ما لا تعلمون ، وقوله: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض استحضار لقوله لهم: إني أعلم ما لا تعلمون إلا أنه جاء به على وجه أبسط من ذلك وأشرح، وقرئ: (وعلم آدم) على البناء للمفعول، وقرأ عبد الله : (عرضهن)، وقرأ (عرضها)، والمعنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها; لأن العرض لا يصح في الأسماء، وقرئ، (أنبيهم) بقلب الهمزة ياء، (وأنبهم) بحذفها، والهاء مكسورة فيهما. أبي: