"فمكث" قرئ : بفتح الكاف وضمها غير بعيد غير زمان بعيد ، كقوله : عن قريب ، ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان ، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له ، ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله تعالى "أحطت" بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق : ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علمها : أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم . قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه . "سبأ " : قرئ بالصرف ومنعه . وقد روي بسكون الباء . وعن في رواية : "سبا " ، بالألف كقولهم : ذهبوا أيدي ابن كثير سبا . وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف ، ومن جعله اسما للحي أو الأب الأكبر صرف ؛ قال [من المنسرح ] :
من سبإ الحاضرين مأرب إذ . . . يبنون من دون سيله العرما
[ ص: 447 ] وقال [من البسيط ] :
الواردون وتيم في ذرى سبإ . . . قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ثم سميت مدينة مأرب بسبإ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ، كما سميت معافر بمعافرين أد . ويحتمل أن يراد المدينة والقوم . والنبأ : الخبر الذي له شأن . وقوله : من سبإ بنبإ من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعا ، أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء ها هنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى . ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر ، لكان المعنى صحيحا ، وهو كما جاء أصح ، لما في النبإ ، من الزيادة التي يطابقها وصف الحال .