ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء [ ص: 191 ] لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق
"ذلك " : خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر والشأن ذلك ، كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال : هذا وقد كان كذا ، والحرمة : ما لا يحل هتكه ، وجميع ما كلفه الله تعالى- بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج ، وعن : الحرمات خمس زيد بن أسلم الكعبة الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم حتى يحل ، فهو خير له أي فالتعظيم خير له ، ومعنى التعظيم : العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها ، المتلو لا يستثنى من الأنعام ، ولكن المعنى : إلا ما يتلى عليكم : آية تحريمه ؛ وذلك قوله في سورة المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم والمعنى : أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها إلا ما استثناه في كتابه ، فحافظوا على حدوده ، وإياكم أن تحرموا مما أحل شيئا ، كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك ، وأن تحلوا مما حرم الله ، كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك .
لما حث على تعظيم حرماته وأحمد من يعظمها ، أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور ؛ لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول ، وأسبقها خطوا ، وجمع الشرك وقول الزور في قران واحد ، وذلك أن الشرك من باب الزور ؛ لأن المشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة ، فكأنه قال : فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا شيئا منه ؛ لتماديه في القبح والسماجة ، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان ، وسمى الأوثان رجسا ، وكذلك الخمر والميسر والأزلام ، على طريق التشبيه ، يعني : أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه ، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة ، ونبه على هذا المعنى بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [المائدة : 90 ] ، جعل العلة في اجتنابه أنه رجس ، والرجس مجتنب ، أعظم الحرمات من الأوثان بيان للرجس وتمييز له ، كقولك : عندي عشرون من الدراهم ؛ لأن الرجس مبهم يتناول غير شيء ، كأنه قيل : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، والزور والازورار وهو الانحراف ، كما أن الإفك من أفكه إذا صرفه . وقيل : قول الزور قولهم : هذا حلال وهذا حرام ، وما أشبه ذلك من افترائهم ، وقيل : شهادة الزور ، الإشراك بالله ، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله " ، وتلا هذه الآية شهادة الزور ، وقيل : الكذب والبهتان ، وقيل : قول أهل الجاهلية في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، ويجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق ، فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية ، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ، فتفرق مزعا في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة ، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء ، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة ، وقرئ : "فتخطفه " : بكسر الخاء والطاء ، وبكسر التاء مع كسرهما ؛ [ ص: 193 ] وهي قراءة عن [ ص: 192 ] النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الصبح ، فلما سلم قام قائما واستقبل الناس بوجهه ، وقال : "عدلت ، وأصلها تختطفه ، وقرئ : "الرياح " . الحسن