فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فأجاءها : أجاء : منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى : الإلجاء ، ألا تراك تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه ؛ ونظيره : "آتي " ؛ حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ، ولم تقل : أتيت المكان وآتانيه فلان ، قرأ في رواية : ابن كثير "المخاض" بالكسر ، يقال : مخضت الحامل مخاضا ومخاضا ، وهو تمخض الولد في بطنها .
طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة ، وكان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة ، وكان الوقت شتاء ، والتعريف لا يخلو : إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق ، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس ، فإذا قيل : جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل ، وإما أن يكون تعريف الجنس ، أي : جذع هذه الشجرة خاصة ، كأن الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها ، ولأن النخلة أقل شيء صبرا على البرد ، وثمارها إنما هي من جمارها ، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها ، قرئ : " مت " : بالضم والكسر ، يقال : مات يموت ، [ ص: 14 ] ومات يمات ، النسي : ما من حقه أن يطرح وينسى ، كخرقة الطامث ونحوها ، كالذبح : اسم ما من شأنه أن يذبح في قوله تعالى : وفديناه بذبح عظيم [الصافات : 107 ] ، وعن يونس : العرب إذا ارتحلوا عن الدار قالوا : انظروا أنساءكم ، أي : الشيء اليسير نحو العصا والقدح والشظاظ ، تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه له ، من شأنه وحقه أن ينسى في العادة وقد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشور من الناس على حكم العادة البشرية ، لا كراهة لحكم الله ، أو لشدة التكليف عليها إذا بهتوها ، وهي عارفة ببراءة الساحة وبضد ما قرفت به ، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام ؛ لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام : أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح وتستوجب التعظيم ، ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيبا يعاب به ويعنف بسببه ، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها ، وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وحفص : "نسيا" : بالفتح ، قال : هما لغتان كالوتر والوتر ، والجسر والجسر ، ويجوز أن يكون مسمى بالمصدر كالحمل ، وقرأ الفراء : "نسأ " : بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ، ينسؤه أهله لقلته ونزارته ، وقرأ محمد بن كعب القرظي : "منسيا" : بالكسر على الإتباع ، كالمغيرة والمنخر . الأعمش