كل من عليها أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات ( ومن ) للتغليب أو للثقلين فان هالك ويبقى وجه ربك أي ذاته عز وجل ، والمراد هو سبحانه وتعالى ، فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس ، وهو مجاز شائع ، وقيل : أصله الجهة واستعماله في الذات من باب الكناية وتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل ، وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف ، وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ .
والظاهر أن الخطاب في - ربك - للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته ، وفي الآية عند المؤولين كلام كثير منه ما سمعت ، ومنه ما قيل :
الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود ، أي ويبقى ما يقصد به ربك عز وجل من الأعمال ، وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه ، وأقرب منه ما قيل : وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز وجل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه ، ومرجع ذلك العمل الصالح أيضا والله جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء أو لأنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق ، ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في كل من عليها وقيل : وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها على الشيء من عنده أي إنذلك باق دون الشيء في حد ذاته فإنه فان في كل وقت ، وقيل : المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعالى ، والإضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حد ذاته أي إذا اعتبر مستقلا غير مرتبط بعلته أعني الوجود الحق كان معدوما لأن ظهوره إنما نشأ من العلة ولولاها لم يك شيئا مذكورا ، وقول العلامة : لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات ، وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف ، فمنهم من يجعل قوله : لو استقريت إلخ تتمة لتفسيره الأول ، [ ص: 109 ] البيضاوي
ومنهم من يجعله وجها آخر ، وهو على الأول أخذ بالحاصل ، وعلى الثاني قيل : يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة ، وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافا حقيقيا بأن يكون الوجود زائدا عليها قائما بها ، وهو مذهب جمهور الحكماء والمتكلمين ، وإما موجودة مجازا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود قائما بها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء ، وإليه ذهب المتألهون من الحكماء والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتألهين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حضرة الوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى ، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق ، فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضه لشيء ولا قيامه به ومعنى كون الممكن موجودا أنه مظهر له ومجلى ينجلي فيه نوره - فالله نور السماوات والأرض - والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه ، ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لها صفات متكثرة وشؤونات متعددة وتجليات متجددة قل الله ثم ذرهم [الأنعام : 91] والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين .
ووجه التطبيق على الأول أن يقال : المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوب بالغير إذ الممكن - وإن كان موجودا حقيقة عند الجمهور - لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات ، وجهة الاستفادة ليست هي الذات ولا شيئا آخر من الجهات والوجوه كالإمكان والمعلولية والجوهرية والعرضية والبساطة والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلا منها جهته الخسة ، ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحل عن الوجوب الذاتي المنافية له ، وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتي جهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوبا وإن كان بالغير ، ولذا يعقبه فيضان الوجود ، ولذا تسمعهم يقولون : الممكن ما لم يجب لو يوجد .
ووجه التطبيق على الثاني أن يقال : الوجه الذي يلي جهته تعالى هو تلك النسبة المخصوصة المصححة لإطلاق لفظ الموجود عليها ولو مجازا ، فالمعنى كل من عليها فان معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازا إلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهرا له سبحانه ، ووجه التطبيق على الثالث أن يقال : المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شؤونات واعتبارات له تعالى .
فالمعنى كل من عليها معدوم من جميع الوجوه والاعتبارات إلا من الوجه الذي يلي جهته سبحانه والاعتبار الذي يحصل مقيسا إليه عز وجل ، وهو كونه شأنا من شؤونه واعتبارا من اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينا بالله عز وجل . ذو الجلال والإكرام أي يجعله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنه تعالى شأنه فهذا راجع إلى ما له سبحانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز وجل أو الذي يقال في شأنه : ما أجلك وما أكرمك أي هو سبحانه من يستحق أن يقال في شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ما له تعالى من الكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه ، أو من عنده الجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم ، وفسر بعض المحققين ( الجلال ) بالاستغناء المطلق ( والإكرام ) بالفضل التام وهذا ظاهر ، ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها ، ثم ألحق بالحقيقة ، ولذا قال الجوهري : عظمة الشيء الاستغناء عن غيره وكل محتاج حقير ، وقال الكرماني : [ ص: 110 ]
إنه تعالى له صفات عدمية مثل (لا شريك له ) [الأنعام : 163] وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدى بجل عن كذا جل عن كذا وصفات وجوديه - كالحياة والعلم - وتسمى صفات الإكرام ، وفيه تأمل .
والظاهر أن ( ذو ) صفة للوجه ، ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء من عليها لا يخل بشأنه عز وجل لأنه الغني المطلق ، والإشارة إلى أنه تعالى بعد فنائهم يفيض على الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة ، ووصف الوجه بما وصف يبعد كونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفا وكأن من يقول بذلك يقول : ( ذو ) خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له ، ثم قطعت عن التبعية ، ويؤيده قراءة أبي. وعبد الله - ذي الجلال - بالياء على أنه صفة تابعة للرب ، وذكر أن هذا الوصف قد خص به عز وجل ولم يستعمل في غيره ، فهو من أجل أوصافه سبحانه ، ويشهد له ما رواه الراغب عن الترمذي أنس والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعا أي الزموه واثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم ، وروى «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» الترمذي وأبو داود عن والنسائي أنس
والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ». «أنه كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه : أتدرون بما دعا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فبأي آلاء ربكما تكذبان مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء ، والحياة الأبدية ، والإثابة بالنعمة السرمدية ، وقال الطيبي : المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجل النعم ، ولذلك خص ( الجلال والإكرام ) بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب ، والتحذير من مثلذلك نعمة ، فلذا رتب عليها بالفاء قوله تعالى : فبأي آلاء إلخ ، وليس بذاك .