قال: أرأيت إلخ، قال شيخ الإسلام: وذكر الإواء إلى الصخرة مع أن المذكور فيما سبق بلوغ مجمع البحرين لزيادة تعيين محل الحادثة، فإن المجمع محل متسع لا يمكن تحقيق المراد بنسبة الحادثة إليه ولتمهيد العذر فإن الإواء إليها والنوم عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة. انتهى.
وهذا الأخير إنما يتم على بعض الروايات من أنهما ناما عند الصخرة، وذكر أن هذه الصخرة قريبة من نهر الزيت وهو نهر معين عنده كثير من شجر الزيتون، و أرأيت قيل: بمعنى أخبرني وتعقبه بأنها إذا كانت كذلك فلا بد لها من أمرين: كون الاسم المستخبر عنه معها ولزوم الجملة التي بعدها الاستفهام وهما مفقودان هنا، ونقل هو وناظر الجيش في شرح التسهيل عن أبو حيان أبي الحسن الأخفش أنه يرى أن «أرأيت» إذا لم ير بعدها منصوب ولا استفهام بل جملة مصدرة بالفاء كما هنا مخرجة عن بابها ومضمنة معنى أما أو تنبه؛ فالفاء جوابها لا جواب إذ لأنها لا تجازى إلا مقرونة بما بلا خلاف فالمعنى: أما أو تنبه إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وقال شيخ الإسلام: الرؤية مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، وقد [ ص: 317 ] جعل فقدانه علامة لوجدان المطلوب وهذا أسلوب معتاد بين الناس، يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب: أرأيت ما نابني؟ يريد بذلك تهويله وتعجيب صاحبه منه، وأنه مما لا يعهد وقوعه ولا استخباره عن ذلك كما قيل، والمفعول محذوف اعتمادا على ما يدل عليه من قوله: فإني إلخ وفيه تأكيد للتعجيب وتربية لاستعظام المنسي اه. وفيه من القصور ما فيه.
جعله استخبارا فقال: إن والزمخشري يوشع عليه السلام لما طلب منه موسى عليه السلام الغداء ذكر ما رأى من الحوت وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل عن سبب ذلك كأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فحذف ذلك اه، وفيه إشارة إلى أن مفعول أرأيت محذوف؛ وهو إما الجملة الاستفهامية إن كانت ما في ما دهاني للاستفهام وإما نفس ما إن كانت موصولة، وإلى أن إذ ظرف متعلق بدهاني وهو سبب لما بعد الفاء في فإني وهي سببية، ونظير ذلك قوله تعالى: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم فإن التقدير: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون إلخ. وهو قول بأن أرأيت بمعنى أخبرني وقد سمعت ما قيل عليه، وفي تقديره أيضا على الاحتمال الثاني ما في حذف الموصول مع جزء الصلة بناء على أن فإني نسيت من تتمتها، وعلى العلات ليس المراد من الاستخبار حقيقته بل تهويل الأمر أيضا. ثم لا يخفى إن رأى إن كانت بصرية أو بمعنى عرف احتاجت إلى مفعول واحد والتقدير عند بعض المحققين: أأبصرت أو أعرفت حالي إذ أوينا وفيه تقليل للحذف ولا يخفى حسنه، وإن كانت علمية احتاجت إلى مفعولين وعلى هذا قال يمكن أن تكون مما حذف منه المفعولان اختصارا، والتقدير: أرأيت أمرنا إذ أوينا ما عاقبته، وإيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإيتائه قيل: للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نسيان زاده في المنزل، وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوال المتعلقة بالغداء من حيث هو غداء وطعام بل من حيث هو حوت كسائر الحيتان مع زيادة، وقيل: للتصريح بما في فقده إدخال السرور على أبو حيان: موسى عليه السلام مع حصول الجواب فقد تقدم رواية أنه قال له: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، ثم الظاهر أن النسيان على حقيقته، وهو ليس متعلقا بذات الحوت بل بذكره.
وجوز أن يكون مجازا عن الفقد فيكون متعلقا بنفس الحوت، والأكثرون على الأول؛ أي: نسيت أن أذكر لك أمر الحوت وما شاهدت من عجيب أمره وما أنسانيه إلا الشيطان لعله شغله بوساوس في الأهل ومفارقة الوطن فكان ذلك سببا للنسيان بتقدير العزيز العليم وإلا فتلك الحال مما لا تنسى.
وقال بعضهم: إن يوشع كان قد شاهد من موسى عليه السلام المعجزات القاهرات كثيرا فلم يبق لهذه المعجزة وقع عظيم لا يؤثر معه الوسوسة فنسي.
وقال الإمام: إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله تعالى عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيها لموسى عليه السلام على أن وأنت تعلم أنه لو جعل الله تعالى المشاهد الناسي هو العلم لا يحصل إلا بتعليم الله تعالى وحفظه على القلب والخاطر، موسى عليه السلام كان أتم في التنبيه، وقد يقال: إنه أنسي تأديبا له بناء على ما تقدم من أن موسى عليه السلام لما قال له: لا أكلفك إلخ قال له: ما كلفت كثيرا حيث استسهل الأمر ولم يظهر الالتجاء فيه إلى الله تعالى بأن يقول: أخبرك إن شاء الله تعالى، وفيه أيضا عتاب لموسى عليه السلام حيث اعتمد عليه في العلم بذهاب الحوت فلم يحصل له حتى نصب، ثم إن هذه الوسوسة لا تضر بمقام يوشع عليه السلام، وإن قلنا إنه كان نبيا وقت وقوع هذه القصة.
[ ص: 318 ] وقال بعض المحققين: لعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما اعتراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان مع أن فاعله الحقيقي هو الله تعالى والمجازي هو الاستغراق المذكور هضما لنفسه بجعل ذلك الاستغراق والانجذاب لشغله عن التيقظ للموعد الذي ضربه الله تعالى بمنزلة الوساوس ففيه تجوز باستعارة الشيطان لمطلق الشاغل.
وفي الحديث: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة».
أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر يعد من نقصان صاحبها وتركه المجاهدات والتصفية فيكون قد تجوز بذلك عن النقصان لكونه سببه، وضم حفص الهاء في: «أنسانيه» وهو قليل في مثل هذا التركيب قلة النسيان في مثل هذه الواقعة، والجمهور على الكسر وأمال فتحة السين. الكسائي
وقوله تعالى: أن أذكره بدل اشتمال من الهاء؛ أي: ما أنساني ذكره لك إلا الشيطان، قيل: وفي تعليق الفعل بضمير الحوت أولا وبذكره له ثانيا على طريق الإبدال المنبئ عن تنحيته المبدل منه إشارة إلى أن متعلق النسيان ليس نفس الحوت بل ذكر أمره.
وفي مصحف عبد الله وقراءته: «أن أذكركه»، وفي إيثار أن والفعل على المصدر نوع مبالغة لا تخفى.
واتخذ سبيله في البحر عجبا الظاهر الذي عليه أكثر المفسرين أن مجموعه كلام يوشع وهو تتمة لقوله: فإني نسيت الحوت وفيه إنباء عن طرف آخر من أمره وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل: حيي واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا، فسبيله مفعول أول لاتخذ و في البحر حال منه و عجبا مفعول ثان، وفي ذكر السبيل ثم إضافته إلى ضمير الحوت ثم جعل الظرف حالا من المضاف تنبيه إجمالي على أن المفعول الثاني من جنس الأمور الغريبة، وفيه تشويق للمفعول الثاني وتكرير مفيد للتأكيد المناسب للمقام، فهذا التركيب في إفادة المراد أو في لحق البلاغة من أن يقال: واتخذ في البحر سبيلا عجبا، وجوز أن يكون في البحر حالا من «عجبا» وأن يكون متعلقا ب «اتخذ»، وأن يكون المفعول الثاني له و «عجبا» صفة مصدر محذوف؛ أي اتخاذا عجبا، وهو كون مسلكه كالطاق والسرب، وجوز أيضا على احتمال كون الظرف مفعولا ثانيا أن ينصب عجبا بفعل منه مضمر؛ أي: أعجب عجبا، وهو من كلام يوشع عليه السلام أيضا، تعجب من أمر الحوت بعد أن أخبر عنه، وقيل: إن كلام يوشع عليه السلام قد تم عند «البحر» وقول: أعجب عجبا كلام موسى عليه السلام كأنه قيل: وقال موسى: أعجب عجبا من تلك الحال التي أخبرت بها، وأنت تعلم أنه لو كان كذلك لجيء بالجملة الآتية بالواو العاطفة على هذا المقدر، وقيل: يحتمل أن يكون المجموع من كلامه عز وجل وحينئذ يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون إخبارا منه تعالى عن الحوت بأنه اتخذ سبيله في البحر عجبا للناس، وثانيهما: أن يكون إخبارا منه سبحانه عن موسى عليه السلام بأنه اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا يتعجب منه، و «عجبا» على هذا مفعول ثان ولا ركاكة في تأخير ( قال ) الآتي عنه على هذا لأنه استئناف لبيان ما صدر منه عليه السلام بعد، ويؤيد كونه من كلام يوشع عليه السلام قراءة أبي حيوة: «واتخاذ» بالنصب على أنه معطوف على المنصوب في أذكره