وتعقبه بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى: النيسابوري ذو الرحمة لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن: ( غفور رحيم ) بالمبالغة في الجانبين كثيرا، وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر؛ لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره اه، وقيل عليه: إنهم فسروا الغفار بمريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم بمريد الإنعام على الخلق، وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه لها، وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق اه، وهو كلام حسن اندفع به ما أورد على الإمام. وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضا ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب، ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول إن مقدوراته تعالى متناهية؛ فإن ظاهره التعجيز تعالى الله سبحانه عما يقوله الظالمون علوا كبيرا، ولكن يدفع بالعناية فتدبر، ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين هاهنا على ما قاله النيسابوري الخفاجي إن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية؛ إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأسا، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحا في نفسه كما قيل، والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم؛ إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية، ولو سلم ما ذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة [ ص: 305 ] في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابله لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر، ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية، كذا قيل وفيه نظر.
وربما يقال في توجيه ما قاله من أن «ذو الرحمة» لا يخلو عن المبالغة: إن ذلك إما لاقتران الرحمة بأل فتقيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء. وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ، وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلا إلى ذلك، ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضا المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال: إنه أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها بكونها في الدنيا أو في الآخرة، وهذان الاسمان يفيدان التقييد على المشهور؛ ولذا عدل عنهما إلى «ذو الرحمة»، وإذا قلت: هما مثله في عدم التقييد قيل: إن دلالته على المبالغة أقوى من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الاسمين الجليلين عليها، وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معا أبلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه، ومن أنصف لم يشك في أن قولك: فلان ذو العلم، أبلغ من قولك: فلان العليم، من حيث إن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران، وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني، ووجه ذلك ظاهر؛ فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى، والنكتة فيه هاهنا مزيد إيناسه صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه بمزيد حرصه عليه الصلاة والسلام على ذلك، وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. انتهى. النيسابوري
وهو كلام واقف في أعراف الرد والقبول في النظر الجليل، ومن دقق علم ما فيه من الأمرين، وإنما قدم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال والمقام؛ إذ المقام على ما قاله المحققون مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله تعالى: لو يؤاخذهم أي: لو يريد مؤاخذتهم بما كسبوا أي: فعلوا، وكسب الأشعري لا تفهمه العرب، وما إما مصدرية؛ أي: بكسبهم وإما موصولة؛ أي: بالذي كسبوه من المعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات لعجل لهم العذاب لاستيجاب أعمالهم لذلك، قيل: وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبئ عنه تاليها، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة؛ فإن المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار الفعل فيما مضى بل لهم موعد وهو يوم بدر أو يوم القيامة على أن الموعد اسم زمان، وجوز أن يكون اسم مكان والمراد منه جهنم، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل: لكنهم ليسوا مؤاخذين [ ص: 306 ] بغتة بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا قال أي: منجى، يقال: وألت نفس فلان: نحت، وعليه قول الفراء: الأعشى:
وقد أخالس رب الدار غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
وقال هو الملجأ، يقال: وأل فلان إلى كذا يئل وألا ووءولا: إذا لجأ والمعنى واحد، والفرق إنما هو بالتعدي بإلى وعدمه، وتفسيره بالملجأ مروي عن ابن قتيبة: وفسره ابن عباس، بالمحرز، مجاهد بالمخلص والأمر في ذلك سهل، وهو على ما قاله والضحاك يحتمل أن يكون اسم زمان وأن يكون اسم مكان، والضمير المجرور عائد على الموعد كما هو الظاهر، وقيل: على العذاب وفيه من المبالغة ما فيه لدلالته على أنهم لا خلاص لهم أصلا فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة. أبو البقاء:
وأنت تعلم أن أمر المبالغة موجود في الظاهر أيضا وقيل: يعود على الله تعالى وهو مخالف للظاهر مع الخلو عن المبالغة، وقرأ «مولا» بتشديد الواو من غير همز ولا ياء، وقرأ الزهري: عن أبو جعفر الحلواني عنه: «مولا» بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء أيضا.