الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وقلة ماء بلا حد كالغسل )

                                                                                                                            ش : يعني أن من فضائل الوضوء أي مستحباته تقليل الماء من غير تحديد في ذلك ، وكذلك الغسل يستحب فيه تقليل الماء من غير تحديد .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) ما ذكره المصنف من أن تقليل الماء في الوضوء والغسل مستحب صرح به القاضي عياض في قواعده والقرافي في الذخيرة والشبيبي وغيرهم وقاله في النوادر وسيأتي لفظها وأصل المسألة في المدونة وفي رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الطهارة قال في المدونة : وأنكر مالك قول من قال في الوضوء حتى يقطر الماء أو يسيل ، وقد كان بعض من مضى يتوضأ بثلث المد . ولفظ الأم وسمعت مالكا يذكر قول الناس في الوضوء حتى يقطر أو يسيل ، قال : فسمعته يقول : قطر قطر إنكارا لذلك ، وقال في الرسم المذكور : قال مالك : رأيت عباس بن عبد الله وكان رجلا صالحا من أهل الفقه والفضل يأخذ القدح فيجعل فيه قدر ثلث مد هشام فيتوضأ به ويفضل منه ثم يقوم فيصلي بالناس وأعجب مالكا ذلك من فعله . قال ابن رشد : إنما أعجبه واستحسنه ; لأن السنة في الغسل والوضوء إحكام الغسل مع قلة الماء فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم { توضأ بمد وتطهر بصاع } وروي { أنه توضأ بنصف المد } وذلك لا يقدر عليه إلا العالم السالم من وسوسة الشيطان ، وإلى فعل عباس بن عبد الله هذا أشار في المدونة بقوله وكان بعض من مضى يتوضأ بثلث المد يعني مد هشام لا ثلث مد النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه يسير جدا لا يمكن إحكام الوضوء به انتهى . وقول الشيخ في الرسالة : وقلة الماء مع إحكام الغسل سنة ، والسرف منه غلو وبدعة ليس مخالفا لما ذكره المصنف في استحباب ذلك قال البساطي : لأنه قد يطلق السنة على المستحب انتهى . وقال الشيخ يوسف بن عمر : لم يرد بالسنة التي هي من أقسام المستحب وإنما أراد بالسنة هنا ضد البدعة انتهى . وقال الشيخ زروق يعني سنة يستحب العمل بها فهو مندوب إليه انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) ولهذا قال ابن رشد في شرح المسألة السابقة وإنما أعجب مالكا واستحسنه ; لأن السنة إلخ . وعباس المذكور قال في التنبيهات : هو عباس بباء موحدة وسين مهملة ابن عبد الله بن سعيد بن العباس بن عبد المطلب قال : والشيوخ يقولون عياش يعني بمثناة تحتية وشين معجمة وهو خطأ انتهى . والمشهور أن مد هشام مد وثلثا مد بمده عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                            ( الثاني ) ما ذكره المصنف من نفي التحديد في الوضوء والغسل هو المشهور وقال ابن شعبان : لا يجزي في الغسل أقل من صاع ولا في الوضوء أقل من مد ; لأنه لا أرطب من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا القول عزاه عياض لابن شعبان وعزاه جماعة منهم المصنف في التوضيح للشيخ أبي إسحاق وهو ابن شعبان ، وعزاه الفاكهاني للشيخ [ ص: 257 ] أبي إسحاق التونسي وذكر ابن عرفة عن الباجي نحوه ونصه الباجي : أقل ماء الوضوء مد ، والغسل صاع ، وعزاه عياض لابن شعبان وقال : المشهور عدم التحديد انتهى . وقال ابن العربي في العارضة : وأقل المقدار ما كان يكتفي به سيد الناس فلا يمكن في الوجود أعلم منه ولا أرفق ولا أحوط ولا أسوس بأمور الشرع ومكارم الأخلاق انتهى .

                                                                                                                            ( الثالث ) قال في العارضة أيضا : وإذا قلنا يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع فمعناه كيلا أو وزنا فكيل المد والصاع بالماء أضعاف ذلك بالوزن فتفطن لهذه الدقيقة انتهى . ونقله في التوضيح باختصار فقال : والتقدير بالمد والصاع في الكيل لا في الوزن وقال الشيخ زروق : أي مقدار ما يسع مدا من الطعام ; لأن قدر المد من الماء يسير جدا ومن الطعام أضعافه انتهى . يعني قدر وزن المد من الماء .

                                                                                                                            ( الرابع ) الواجب عند مالك الإسباغ قال في التوضيح : أي التعميم ، وإنكار مالك التحديد بأن يسيل أو يقطر إنما هو لنفس التحديد به ; لأنه بغير دليل وإلا فهو مع عدم السيلان مسح بغير شك قاله فضل بن مسلمة وقال ابن محرز : ظاهر قوله أنه ليس من حد الوضوء أن يسيل أو يقطر ، قال في التنبيهات : وهو خلاف الأولى انتهى . وقال ابن يونس : يعني أنه أنكر أن يكون ذلك حده انتهى . يعني التقطير والسيلان وقال في الطراز : أنكر مالك التحديد بقطر الماء وإن كان من ضرورته غالبا انتهى . وقال ابن راشد في شرح قول ابن الحاجب وأنكر مالك التحديد بأن يسيل أو يقطر : يعني أنكر السيلان عن العضو لا السيلان على العضو إذ لا بد منه وأما السيلان عن العضو فغير مطلوب ; لأن المقصود إيصال الماء إلى البشرة وإيعابها به إما أنه يقطر أو يسيل عنها فلا اعتبار به انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وهذا يأتي على ما تقدم عن ابن محرز فتحصل من كلام الشيوخ أن في اشتراط السيلان قولين ، قال البرزلي بعد أن ذكر عن سحنون نحو ما تقدم عن ابن محرز : وإلى هذا ذهب غير واحد من الشيوخ .

                                                                                                                            ( فائدة ) حكى عياض خلافا في ضبط قوله قطر هل هو فعل ماض أو مصدر منون .

                                                                                                                            ( الخامس ) التقليل مستحب مع الأحكام كما تقدم في الرسالة قال الشيخ يوسف بن عمر وقد قال في الرسالة بعد ذلك : وليس كل الناس في أحكام ذلك سواء وإنما يراعى القدر الكافي في حق كل واحد فما زاد على قدر ما يكفيه فهو بدعة وإن اقتصر على قدر ما يكفيه فقد أدى السنة انتهى . وقال الفاكهاني بعد أن ذكر قول أبي إسحاق بالتحديد بالمد والصاع : وهذا لا معنى له وإنما هو على حسب حال المستعمل وعادته في الاستعمال ; لأن الله سبحانه أمر بالغسل ولم يقيده بمقدار معين وذلك من لطف الله تعالى بخلقه ، إذ لو كان فيه حد للزم الحرج لما علم من اختلاف عادات الناس فمنهم من يكفيه اليسير لرفقه ومنهم من لا يكفيه إلا الكثير لإسرافه ، فلو كان فيه حد لوجب أن يفارق كل واحد عادته ويستعمل من يكفيه اليسير زيادة على ما يحتاج إليه ، ويقتصر من لا يتمكن من أداء الواجب إلا بالكثير على ما لا يمكنه أداء الواجب معه ، وهذا فاسد ، وإذا علم هذا فالمستحب لمن يقدر على الإسباغ بالقليل أن يقلل الماء ولا يستعمل زيادة على الإسباغ انتهى .

                                                                                                                            ( السادس ) علم من هذا أن السرف هو ما زيد بعد تيقن الواجب وهو مكروه على ما نص عليه الشيوخ كما سنقف عليه ، ويؤخذ من القول الذي يذكره المصنف في منع الرابعة أنه ممنوع قال الشيخ زروق : السرف الإكثار في غير حق والغلو الزيادة في الدين ، وقوله : في الرسالة : والسرف فيه غلو وبدعة ، قال في شرحه الشيخ زروق والبدعة لغة المحدث ، وفي الشرع إحداث أمر في الدين يشبه أن يكون منه وليس منه ، ومرجعه لاعتقاد ما ليس بقربة على وجه الحكم بذلك وهذا منه لمن يراه كمالا فأما من يعتريه ذلك من وسوسة يعتقد نقصها وأن [ ص: 258 ] ما يفعله من ذلك مخالف للأصل فلا يصح كونه منه بدعة إلا من حيث صورته ، ثم البدعة محرمة ومكروهة ولا يمكن أن يبلغ بهذه حد التحريم ; لأنها لم تعارض واجبا ولا رفعت حكما أصليا وقد نص في النوادر على الكراهة انتهى . وقال البرزلي : روينا عن النووي الإجماع على أنه لا يجوز السرف في الطهارة ولو كان على ضفة النهر وهو معنى ما في الرسالة ، والسرف فيه غلو وبدعة وهذا كله في غير الموسوس ، وأما الموسوس فهو شبيه بمن لا عقل له فيغتفر في حقه لما ابتلي به انتهى . ولفظ النوادر : والقصد في الماء مستحب والسرف منه مكروه انتهى . ونقله عنها الشيخ يوسف بن عمر وغيره ، وصرح ابن العربي أيضا في العارضة بأن السرف مكروه ، وعد القاضي عياض والشبيبي في مكروهات الوضوء الإكثار من صب الماء وتقدم عند قول المصنف لا إن عسر الاحتراز منه أو كان طعاما . عن ابن ناجي أنه قال الأظهر أنه مكروه كراهة تنزيه والله أعلم وسيأتي في كلام سند عند قول المصنف وشفع غسله أنه مكروه والله أعلم .

                                                                                                                            ( السابع ) قال الجزولي في قوله في الرسالة وقد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمد : انظر هل هذا حين توضأ مرة أو حين توضأ مرتين أو حين توضأ ثلاثا ؟ لم أر فيه نصا انتهى . وقال الشيخ يوسف بن عمر قوله : توضأ بمد يعني بعد الاستنجاء وقال الشيخ زروق في شرح قوله وتطهر بصاع : قال بعض الشيوخ : وذلك بعد إزالة الأذى انتهى .

                                                                                                                            ( فائدة ) قال الشيخ زروق : قال بعضهم : الوسوسة بدعة أصلها جهل بالسنة أو خبال في العقل ثم قال : قال بعض مشايخ الصوفية : لا تعتري الوسوسة إلا صادقا ; لأنه يحدث من التحفظ في الدين ولا تدوم إلا على جاهل أو مهوس ; لأن التمسك بها من اتباع الشياطين وقال قبل هذا : وآفة ذلك يعني الإسراف في صب الماء من جهات هي أنه ربما اتكل عليه وفرط في الدلك وأبطأ به الحال حتى تفوته صلاة الجماعة أو غيرها أو أضر بغيره في الماء ممن يريد الطهارة أو غيرها أو يألف ذلك فلا تمكنه الطهارة مع قلة الماء لألفة الكثرة أو يبقى مشوش القلب . قال : قالوا : أو يورث ذلك الوسواس فلا يمكن معه زوال الشك وقد جربنا ذلك انتهى . بالمعنى

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية