شارك فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث اجتمعت قريش في دار عبد الله بن جدعان، لشـرفه وسنـه، فتحـالفوا واتفقـوا على نصرة المظلوم ورد المظالم إلى أهلها، وسمـي ذلك الحـلف: "حـلف الفضـول"، وكان سبب عقد حلف الفضول، أن رجـلا قـدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه، فـاستعـدى عليـه الغريب أهـل الفضـل في مـكة، فخذله فريق، ونصره الآخر، فكان الحلف، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه مال الغريب، فدفعوه إليه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحلف: ( شهدت حلف المطيبين (يقصد حلف الفضول، فهم في الأصل من جماعة المطيبين) مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وإني أنكثه ) [1] . وقال أيضا: ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو ادعى به في الإسلام لأجبت ) [2] . [ ص: 75 ]
ونصر المظلوم ورفع الظلم عنه فرض كفاية، رغم أن جميع المسلمين مخاطبون بذلك وهو الراجح، "ويتعين أحيانا على من له القدرة عليه وحده، إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب، وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخير، وشرط الناصر أن يكون عالما بكون الفعل ظلما، ويقع النصر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه كمن أنفذ إنسـانا من يد إنسـان طـالبه بمال ظلما وهدده إن لم يبذله، وقد يقع بعد، وهو كثير" [3] .
وما أحوجنا في واقعنا المعاصر إلى مثل هذه الأحلاف! وبهذا الأسلوب الراقي والحضـاري لمواجهـة الظلم، الذي شـاع بصـوره وأشـكاله المخـتـلفـة في جوانب حياتنا كلها، وذلك من أجل نصرة المظلوم وردع الظالم ورد الحقوق إلى أهلها، خصوصا أن عنجهية الظلمة وغرورهم قد لا يردعها عقوبة آجلة ليوم البعث والنشور، وربما لا يزجر القانون الظالمين ويمنعهم عن ظلمهم، ولكنهم قـد يرتدعوا إذا ما وجـدوا أن ضحيتـهم عزيزة المنـال، وأن افتراسها قـد يؤدي إلى هـلاكهم، فالظـلمـة يتجـاوزون الـحـد ما لـم يروا مـا يمنعـهم أو يردعهـم من ذلك، وقد قيل: "فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا، لما أقدم على الظلم" [4] . [ ص: 76 ]
وفي هذا يقول الشاعر قريط بن أنيف العنبري:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا لكن قومي-وإن كانوا ذوي نفر-
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأن ربك لم يخلق لخشيتـه
سواهم من جميع الناس إنسانا فليت لي بهم قوما إذا ركبـوا
شنوا الإغارة فرسانا وركبانا
ويرى الماوردي أن من طباع الناس المنافسة والمغالبة والتظالم، ولا يمكن أن يمنع ذلك إلا علة معينة كما أشار المتنبي [5] :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم مـن شيـم الـنفـوس، فـإن تجد ذا عـفة فلعلة لا يظلـم
والعلة المانعة من الظلم هي واحدة مما يلي [6] :
- العقل؛ الدين؛ السلطان؛ العجز.
وأشد هذه الأربعة زجرا هو السلطان، وفي ذلك يقول الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام: ( السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم ) [7] ، ( وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ) [8] . [ ص: 77 ]
ويؤكد الشرع الحنيف ضرورة نصرة المسلم لأخيه المسلم في حال تعرضه للظلم، فلا يجب أن يترك المسلم مع من يضره أو يؤذيه، بل لا بد من نصره والدفاع عنه إن كان مظلوما، ولا بد من الأخذ فوق يديه وحجزه ومنعه من الظلم إن كان ظالما، وهذا هو مبدأ النصرة في الإسلام، الذي يقوم على أسس ثلاثة رئيسة هي [9] :
- الوقوف في وجه الظالم وكف يده.
- استنهاض المظلوم ليدافع عن نفسه.
- مطالبة بقية المسلمين بالتدخل لمنع وقوع الظلم.
وقـد أكد رسـول الله صلى الله عليه وسلم مبـدأ النصرة والتناصر هذا بين المسـلمـين، إذ يقول صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ فوق يديه )[10] .
وقـال صلى الله عليه وسلم : ( إنه لا قدسـت أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع ) [11] .
ويروي الـبـراء بن عازب، رضي الله عنه، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، فذكر: ( عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم ) [12] . [ ص: 78 ]
وعن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، مرفوعا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقـول رب العـزة: ( وعزتي وجـلالي لأنتقمن من الظالم في عاجل أمره، أو في آجـله، ولأنتقـمن ممـن رأى مظلوما يظلـم، فقـدر أن ينصره، فلم يفعل له ) [13] .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اضمنوا ست خصال أضمن لكم الجنة. قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: لا تظلموا عند قسمة مواريثـكم، وأنصفوا الناس من أنفسكم، ولا تجبنوا عند قتال عدوكم، ولا تغلوا غنائمكم، وامنعوا ظالمكم عن مظلومكم ) [14] .
وقال الشاعر أحمد بن مشرف التميمي:
وخذ بيد المظلوم قد حق نصره ولا تترك الباغي معيثا فاسدا
وإذا تغاضى الناس أفرادا وجماعات عن ردع الظالم، ولم يمنعوه من ظلمه، فإن الله تعالى يوشك أن يعمهم بعقاب من عنده: ( إن الناس إذا رأوا الظالم لم يأخذوا على يديه... ) وفي لفظ: ( ... إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه؛ وفي لفظ: من عنده ) [15] .
ويرى بعضهم أن السكوت عن الظلم هو في واقع الأمر أسوأ من الظلم نفسه، ومن يشاهد الظلم ولا يمنع وقوعه، هو أكثر إثما ممن يمارسه، وفي ذلك [ ص: 79 ] يقـول "مارتن لوثر كينـج": "المصيبـة ليسـت في ظلـم الأشرار، بل في صمت الأخيار".
ويشير الشرع الحنيف إلى أن الظلم أصلا لا يجب أن يوجد في المجتمع المسلم، وإن وجد، فلا بد من اجتثاثه: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) [16] .
لا شك أن رد الظلم والانتصار من الظالم بمثل فعله، هي من الأمور الشرعية المنصوص عليها، يقول المولى عز وجل: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ) (النساء:148). وفـي موضع آخر من الكتاب العزيز، يقول عز من قائل: ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) (الشورى:39). فالمسلم يكره ويأنف الذلة والصغار لنفسه ولإخوانه من المسلمين، وقد قيل:
فلم أر مثل العدل للمرء رافعا ولم أر مثل الجور للمرء واضعا
إن تجنب الظـلـم والابتعـاد عنـه أمر محمـود ومطـلـوب شـرعا، ( فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه على اليمن, قال: إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن [ ص: 80 ] لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب" ) [17] ، وقد قال ابن رجب: "من سلم من ظلم غيره، وسلم الناس من ظلمه، فقد عوفي، وعوفي الناس منه" [18] ، وسئل أحد الصالحين: كم بيننا وبين الله؟ قال: دعوة مظلوم [19] ، وقد قيل:
إياك من عسف الأنام وظلمهم واحذر من الدعوات في الأسحار
لقد كتب الله تعالى على نفسه أن يكون نصيرا للمظلومين، ووعد بنصرة المظلوم والاستجابة لدعوته عاجلا أو آجلا: ( ثلاث لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام، وتفتح لها أبواب السماء ) [20] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث دعوات يستجاب لهن، لا شك فيهن: دعوة المظلوم, ودعوة المسافر, ودعوة الوالد لولده ) [21] ، ورحم الله من قال: [ ص: 81 ]
كنت الصحيح وكنا منك في سقم فإن سقمت فإنا السالمون غدا
دعت عليك أكف طالما ظلمت ولن ترد يد مظلومة أبـدا
وكان معاوية رضي الله عنه يقول: "إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصرا إلا الله" [22] . وقيل: "اتق الله فيمن لا ناصر له إلا الله" [23] ، وقيل شعرا:
أد الأمانة والخيانة فاجتنـب واعدل ولا تظلم يطب لك مكسب
واحذر من المظلوم سهما صائبا واعلم بأن دعاءه لا يحجـب
وإذا رأيت الرزق ضاق ببلدة وخشيت فيها أن يضيق المكسـب
فارحل فأرض الله واسعة الفضا طولا وعرضا شرقها والمغرب
وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى: "لا تحتقر دعاء المظلوم، فشرر قلبه محمـول بعجيـج صـوته إلى سقـف بيـتك، ويحـك!!!، نبـال أدعيته مصيبة، وإن تأخر الوقت، قوسه قلبه المقرح، ووتره سواد الليل، وأستاذه صاحب "لأنصرنك ولو بعد حين"، وقد رأيت ولكن لست تعتبر، احذر عداوة من ينام وطرفه باك، يقلب وجهه في السماء يرمي سهاما ما لها غرض سوى الأحشاء منك" [24] .
وإذا كانت الحكومات والجماعات تحاول كف العدوان الظاهر ومنع الظلم البين بين الناس، فإن هناك صورا وألونا من آفة الظلم الخفي، لا تستطيع [ ص: 82 ] أي حكومة أو جماعة أن تدفعها أو تمنعها، "فالزور المموه، والباطل المزيف، والفسـاد الملـون بصبـغ من الإصلاح ونحو ذلك مما يرتكبه أرباب الشهوات" لا يمكن للحكومة أن تكتشفه، فكيف يمكن للحكومة "الاطلاع على خفيات الحيل، وكامنات الدسائس، ومطويات الخيانة، ومستورات الغدر" حتى تقوم بدفعها، وتمنع وقوعها؟ [25]
لا شك أن الظلم الخفي أكثر خطورة وفتكا بالأفراد والمجتمع من الظلم البين والظـاهر، فاستـغفـال العبـاد والمكر والغدر بـهم، وأخـذهم على حين غرة بالحيـلة تارة والـدس تارة أخـرى، للإيقاع بـهم وغـصـب حقوقهم وسلبهم، بهدف إشباع شهوة أو تحقيق رغبة، إنما هو قمة الظلم والعسف، وهـذا النوع مـن الظـلم قد يمارسه أفراد وجهات متنفذة سياسيا أو اجتماعيا لا ترغـب في انكشاف أمـرها. لذلك ولمكافحة هذا الظلم، عمل بعض الخلفاء على إيجاد ولاية للمظالم للنظر فيها؛ لأن ذلك أمر جليل يسعى لإنصاف الظالم من المظلوم ويمنع التجاحد بين الناس بهيبة السلطان وقوته، ويجب فيمن يتولى ولاية المظالم أو ديوانها، أن يكون على قدر عال من القدرة والعفة والهيبة والورع.
وقد كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أول من خصص للمظالم يوما للنظر فيهـا، وكان الخليفة عمـر بن عبـد العزيز، رحمه الله، أول من ندب [ ص: 83 ] نفسـه من الخلفاء للنظر في المظالم وفـق أسس الشـرع الحنيف، وجلس لولاية المظالم من خلفاء بني العباس المهدي والهادي والرشيد والمأمون والمهتدي [26] .
ويغطي النظر في المظالم عشرة جوانب حياتية رئيسة هي [27] :
- تعديات الولاة على الرعية.
- جور العمال في الأموال.
- أعمال كتاب الدواوين.
- تظلم المسترزقة.
- رد كل ما هو مغتصب من أملاك.
- مظالم الأوقاف.
- تنفيذ ما عجز القضاء عن تنفيذه.
- تنفيذ ما عجز المحتسب عن تنفيذه.
- الإخلال بالعبادات الظاهرة.
- فض النزاعات بين المتشاجرين والمتنازعين.
والانتصار من الظالم للمظلوم هو بمثابة إعادة الأمور إلى نصابها، وتحقيق العدل، الذي هو غاية المجتمع ووسيلته لتحقيق أهدافه والارتقاء في سلم الحضارة، وهذا ما يفسر ربط الشرع الحنيف إيمان الفرد بحبه للآخرين، فلا إيمان لمن يخوض في عرض أخيه المسلم، أو يظلمه، أو يحط من قدره، أو يسيئ [ ص: 84 ] لسمعته، أو يلحق به أي نوع من أنواع الأذى الجسمي أو المعنوي: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [28] .
وربط اكتمال الإيمان بحب المسلم لأخيه المسلم قضية غاية في الخطورة، لأنها تعني أن المجتمعات الإنسانية عامة والإسلامية خاصة تواجه خطر الانهيار والدمار والاندثار، إذا ما تفشت فيها الكراهية وانتشرت الأحقاد وعم الحسد والبغضاء، وجفت ينابيع الرحمة من القلوب، ففي هذه الحالة يصبح المجتمع أفرادا وجماعات أعداء لأنفسهم، لأنهم سلطوا على بعضهم، وبذلك يأتي الدمار والخراب لهذه المجتمعات من داخلها، ولعل هذا أحد أسرار الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية البائسة، التي تعيشها المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فالظلم والفساد المستشريان في هذه المجتمعات، نشرا فيها ثقافة الحقد والكراهية، بدلا من ثقافة الحب والأخوة، وجذرا فيها العصبية والجهوية، فتحاسد الناس وتباغضوا، وأصبح كل فرد فيها عدوا للآخر، يعمل على أذيته وإفشاله، وأصبحت أغلب المؤسسات في هذه المجتمعات شكلا بلا مضمون، وأفرغت كل أنشطتها وفعالياتها من محتواها، ففقدت معناها، ولم تحقق أهدافها، فأضافت فشلا إلى فشل، وهكذا ضعفت هذه المجتمعات، وأصبحت القصعة التي تتوالى عليها الأيدي، لتعبث بها وتمارس عليها كل صنوف الاستغلال والإذلال [29] . [ ص: 85 ]
وهكذا، فإن ضعف المجتمعات الداخلي، يجعلها مهيأة للاستغلال والسيطرة من قبل الآخرين من الخارج، وهذا يفتح شهية أعدائها، الذين سرعان ما ينقضوا عليها، لافتراسها والسيطرة عليها، وهذه هي حالة القابلية للاستعمار [30] ، وهذه تعني أن القوى الخارجية تستفيد من حالة ضعف المجتمع لتمارس عليه مزيدا من الاستغلال والابتزاز لخدمة مصالحها، وهكذا يجتمع ويتضافر على المجتمع الظلم الداخلي والظلم الخارجي فيقودانه إلى ظلمات الانحطاط والفقر والتخلف وإلى مزيد من الضعف والرضوخ.