الظلم في اللغة مشتق من الفعل الثلاثي ظلم، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه [1] ، والموضع يقصد به هنا الموضع الشرعي، بمعنى الذي يقبله الشرع، وقيل: إن الظلم هو النقص، كما في قوله تعالى: ( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا ) (الكهف:33)، أي لم تنقص منه شيئا، والظلم كذلك هو مجاوزة الحد، ومنه حديث الوضوء: ( فمن زاد أو نقص فقد أساء وظلم ) أي: أساء الأدب بتركه السنة والتأدب بأدب الشرع، وظلم نفسه بما نقصها من الثواب بترداد المرات في الوضوء" [2] . [ ص: 43 ]
والظلم عنـد العسقـلاني هو اسم لما أخذ بغير حـق [3] ، ويأخذ الظلم في العـربية أيضا معـنى الميـل عن القصـد، حيث تقـول العرب: الزم هـذا القصـد ولا تظلم عنه، أي لا تجر عنه، والمظالم جمع مظلمة، ومصدرها: ظلم يظلم، وهو اسم لما أخـذ بغير حق، أي غصبا، والغصب سلب حق الغير دون وجه حق [4] .
والظلم والظلام والظلمة ذات مصدر لغوي واحد، ومعنى هذا المصدر السواد الداكن، وإذا كان الظلام يسبب عمى البصر مجازا؛ لأنه يمنع الرؤية والإبصار، فإن الظلم يعكس عمى القلب والبصيرة عند فاعله [5] .
وقد لوحظ أن مفردة الظلم قد أخذت في الشرع معاني متعددة (الجدول رقم 1)، فهو الشرك: ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) (لقمان:13)، وهو كذلك منع تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) (المائدة:45)، وهو أيضا الخروج على أحكام الشريعة: ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) (البقرة:229).
وجاء الظلم في القرآن الكريم بمعنى الفساد، وهو التلف والعطب والاضطراب والخلل وإلحاق الضرر بالناس، يقول تعالى: ( ظهر الفساد في [ ص: 44 ] البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) (الروم:41)، يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "أن فساد البر هو قتل ابن آدم، وفساد البحر هو أخذ السفينة غصبا، أي غصب الناس حقوقهم".
ويلاحظ أن الطغيان والفساد متلازمان ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، والفساد غالبا ما ينشأ عن الطغيان، بل إن الطغيان هو صانع الفساد وسببه الرئيس، يقول تعالى: ( الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد ) (الفجر:11-12) [6] ، والطغيان هو مجاوزة الحد في كل شيء، ويقال: طغى الإنسان طغيانا، أي جاوز القدر في الكبر والمعصية والكفر [7] .
والعدوان ظلم، وهو تجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه، قال تعالى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) (المائدة:2).
وأخـذ الظلـم في القرآن الكريـم معـنى البغي، وهو الفساد والشدة ومجاوزة الحد بغير حق، يقول تعالى: ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) (الشورى:39) [8] . [ ص: 45 ]
يقوم البغي على العسف وبخس الحقوق والاستعلاء على الناس، وينتج غالبا عن البغضاء والحسد، ونظرا لخطورته، فقد تم تحريمه في القرآن الكريم مقرونا بالشرك، قال تعالى: ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) (الأعراف:33).
وكما يكـون البغي على الآخـر، فـإنه يكون أيضا على النفس، فعندما يتوب الإنسان وقت الشدة، ثم يعود إلى سابق عهده وقت الرخاء، وينسى أو يتناسى ما التزم به أمام الله تعالى، فإنه يكون قد بغى على نفسه: ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) (يونس:22-23).
وجاء الظـلم بمعنى الاستبداد، والاستبداد ما هو إلا تصرف فرد أو جماعة في حقـوق آخـرين بالمشيئـة، وبلا خوف من أي تبعات أو مسؤولية أو عقاب أو خشيـة، وهـو بـهذا المـعـنى يرادف التسلط والتحـكم والاعتسـاف، ومن يمارس الاستبداد مستبـد، ومتـرادفاتـها جبار وطاغية وحـاكم بأمره وحاكم [ ص: 46 ] مطـلق، أما من يمارس عليهـم الاستبـداد، فهم أسرى أو مستصغرون أو بؤساء أو مستنبتون [9] .
والجور ظلم، وفي اللغة يعني تقويض البناء وهدمه، والقهر ظلم وهو الاضطرار من غير رضى [10] ، وأما العتو فهو التكبر والتجبر والعصيان، وهو أيضا النبو عن الطاعة، وقد ذكر أبو هلال العسكري أن العتو ما هو إلا حالة وسطى بين الظلم والطغيان، يقول تعالى: ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا ) (الطلاق:8).
وجـاءت مفردة الهضـم بمعـنى الظـلم، والهضـم في اللغة هو الشرخ الذي لا يوجد فيه رخاوة، يقول تعالى: ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ) (طه:112). والتعدي هو مجاوزة الحق، يقول تعالى: ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) (النساء:14).
ووردت مفردة الحيف في القرآن الكريم أيضا بمعنى الظلم، وهو يعني الميل في الحكم والاصطفاف مع أحد الجانبين، يقول تعالى: ( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ) (النور:50)، والجنف ظلم ويعني الميل في الحكم [11] ، يقول تعالى: [ ص: 47 ] ( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) (البقرة:182).
يتبين مما سبق، أن مفردات الجور، والبغي، والقهر، والفساد، والاستبداد، والطغيان، والعدوان، والعتو، والهضم، والحيف، والتعدي، والجنف كلها مفردات لغوية تحمل في ثناياها معنى مجاوزة الحد والمبالغة في الفعل، وتطلق على صور وأشكال مختلفة للظلم، وهي على درجات متباينة في مقدار المجاوزة والمبالغة والميل عن القصد، لذلك هي متدرجة ومتباينة في مستويات خطورتها، وهذا يعني من منظور لغوي أن الظلم مفهوم موسوعي يكتنز في ثناياه معاني كل هذه المفردات، بمعنى أن المظلة اللغوية لمفهوم أو مصطلح الظلم تتسع لتغطي هذه المفردات كلها، وأيضا تضم هذه المظلة اللغوية لمفردة الظلم كل الأفعال والأقوال التي تتعارض مع أحكام الشريعة وتعاليمها، ابتداء من أكبر الكبائر وهي الإشراك بالله تعالى، حتى اللمم من الذنوب، قال ابن عباس وأصحابه: "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق" [12] .
فالظلم اسم جامع لكل ما أخذ، أو منع بغير حق، أو وضع في غير مكانه الذي يجب أن يكون فيه شرعا وعقلا.
وبذلك يكون الظلم درجات ومستويات مختلفة تقررها طبيعة المخالفة للشرع ونوعها، وحجم الضرر الناتج أو المتحصل عن ذلك، وهذا ما يراه [ ص: 48 ] الإمام الغزالي الذي يذهب إلى القول بأن كل ما يضر به طرف لطرف آخر في المجتمـع فهـو ظلـم، عـلى اعتبار أن الضابط الكلي في ذلك هو قول الله عز وجل: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90).
ويتفق شيخ الإسلام ابن تيمية مع الإمام الغزالي بقوله: "إن الذنوب كلها ظلم"، ويقول أيضا: "إن جميع الحسنات تدخل في العدل، وجميع السيئات تدخل في الظلم"، ويقول أيضا: "إن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم" [13] ، وهـذا أصـل جـامـع عظـيم، وتفصيل ذلك: أن الله خلق الخلق لعبادته، فهـذا المقصـود المطلوب لجميع الحسنات، وهو إخلاص الدين كله لله، وما لم يحصل فيه هذا المقصود، فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة، وإن كل حسنة من بعض الوجوه لها ثواب في الدنيا، وكل ما نهى عنه فهو زيغ وانحـراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه: فهو ظلم" [14] ، لذلك نجد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، التي تتناول آفة الظلم بصورها وأشـكالها المختـلفة كثيرة ومتعـددة، وإن دلت هـذه الكثرة عـلى شيء فإنما تدل على التفشي الكبير للظلم الذي يسود المجتمعات الإنسانية عبر الزمان والمكان. [ ص: 49 ]
ويذهب ابن خلدون مذهب الإمام الغزالي وابن تيمية، حيث يقول في مقـدمتـه: "... ولا تحسبن الظلم هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عـوض ولا سبب كما هو المشهور، بل إن الظلم أعم من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد أو غصبـه في عمـله، أو طـالبه بغير حق، أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه، فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة وغصاب الأملاك على العموم ظلمة" [15] .
والظلم في الحياة عملة ذات وجهين أو صورتين هما [16] :
- ظلم القول: وهو ظلم اللسان، كأن يتم الإساءة للنفس، أو الآخر بالسباب أو الشتم أو الغيبة أو النميمة أو السخرية أو القذف أو شهادة الزور...الخ.
- ظلم الفعل: وهو إلحاق الضرر بالنفس أو بالآخر من خلال الاعتداء بالقتل أو الضرب أو السرقة أو الربا أو الزنى أو اللواط أو التجسس أو أكل المال بالباطل أو خيانة الأمانة... الخ. [ ص: 50 ]
- المصدر: عمل الباحث. [ ص: 53 ]