المجال الثاني: التعليم النظامي:
ويتمثل في المعاهد والمدارس والكليات الشرعية، سواء أكانت تندرج في سلم التعليم الرسمي، أو كانت تعليما أهليا، وهذه المؤسسات تواجه مشكلات عدة، منها:
1- تضاؤل فرص العمل:
مما تعانيه المعاهد والمدارس الشرعية تضاؤل فرص العمل لخريجيها في عدد من الدول الإسلامية؛ فتتركز معظم الفرص في تولي التدريس في حلقة دعوية أو علمية، أو العمل في مؤسسة دعوية، أو التعليم في مدرسة شرعية، وهذه الوظائف محدودة لا تستوعب خريجي الكليات الشرعية، كما أن عائدها المادي في الأغلب لا يؤمن لأصحابها العيش الكريم، ولا يحقق لهم مكانة اجتماعية لائقة، ناهيك عن ضعف الاستقرار والأمان الوظيفي. [ ص: 115 ]
والمطالبة بالاحتساب والتجرد تلائم في خطاب الأفراد وتشجيعهم، لكنها لن تحل المشكلة؛ فهؤلاء الخريجون بشر لهم طموحاتهم وتطلعاتهم، وقد يؤدي ذلك ببعضهم إلى اللجـوء إلى أساليب غير شريفة لتحسين دخولهم، أو المتاجرة بالعلم والدعوة.
كما أن العيش في هذه البيئة له أثره على استقلالهم، وطريقة تفكيرهم، ونظرة المجتمع لهم؛ مما ينعكس على كفاءتهم في الأدوار المتوقعة منهم.
وكان الشيخ محمد رشيد رضـا يشكو من هـذه المشـكلة قائلا: "إنما تلتمس الشهادات لنتائجها المترتبة عليها لا لذواتها، ومن المسلم به أن كل عمل لا فائدة له مبغض مكروه، وبودنا أن يكثر الإقبال على التعليم الديني حتى تعم تعاليمه الأفراد والجماعات، ولا يمكن ذلك إلا إذا كان للشهادات التي تعطى لطالبه قيمة مادية تغني عوزه وتسد حاجته، على أن الواقع يخالف ذلك في الأزهر، ويسوءنا أن نقول: إن الأزهر له هذه الخاصة وحده دون معاهد العلم كلها، فقد سطرت ميزات الشهادات في الأوراق ولا شيء غير ذلك! ففي القانون نمرة (10) نص على أن لحامل الشهادة العالمية الحق في وظائف القضاء الشرعي، والكتابة بالمحاكم الشرعية والأوقاف، والمجالس الحسبية، والتدريس بالأزهر والمعاهد الدينية.. إلخ، ولحامل الشهادة الثانوية الحق في وظائف الخط والإملاء، والوظائف الكتابية بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، والمحاكم الشرعية والأوقاف، والمجالس الحسبية والإمامة والوعظ .. إلخ، أما الابتدائية (فيظهر أنه لا يصح أن يكون لها ميزة حتى ولو على الورق فألغيت ميزتها!). [ ص: 116 ]
فإذا أراد الطالب أن يلتمس طريقا مما ضمنه القانون لإحدى هذه الشهادات بعد حصوله عليها رغبة في حفظ أوده، وجد الأبواب موصدة دونه، ويسوءنا أن كثيرا من حملة العالمية لا يجدون مرتزقا يقيهم ذل الحاجة، حتى وزارة الأوقاف التي هم أشد الناس صلة بها لا تقبل أحدا منهم في وظائفها الكتابية، وكانت نتيجة هذه المعاملة الشديدة أن كثيرا من العلماء قدموا أنفسهم إلى مجالس المديريات للتدريس في مدارسها، فرفضت، وسرت هذه الدعوى إلى المدارس الأهلية فاشتد الداء، وثقلت وطأته على هؤلاء الذين قضوا حياتهم في خدمة العلم، وذلك ما يسيل النفوس أسفا على كرامة العلم والدين.
ليس في وسع العالم الديني أن يتناول عملا دنيئا حرصا على شرفه، كما أنه لم يلق من عناية أولي الأمر به ما يجعله كغيره من الطوائف المتعلمة سعيدا أو على الأقل مطمئنا على مستقبله، فبقي أن نسأل ولاة الأمور عن مصيره؟ الحق أنه شيء كبير أن يترك هؤلاء العلماء لعويلهم من ثقل البؤس في هذا العصر مع أنهم في كل العصور كانوا موطن الاحترام والرعاية". (المنار، 26 / 65 ).
ومن أبرز ما يعترض به المهتمون بالتعليم الشرعي على سؤال ارتباطه بسوق العمل أمران:
الاعتراض الأول: اتهام من يثير ذلك بسـوء النية، وأن الأمر مفتعل في أصله لمحاصرة التعـليم الشرعي، وأحسب أن هناك من هو سيء النية، [ ص: 117 ] ومن يقلقه انتشار التعليم الشرعي، وأمثال هؤلاء يسعون للبحث عن مدخل يبرر موقفهم.
إلا أن اتهام الجميع بسوء النية فيه مبالغة وتجن، وبخاصة أن الواقع الذي لا ينكره أحد ينطق بانصراف كثير من المتميزين عن التعليم الشرعي، ومن هؤلاء عدد من أبناء حملة العلم الشرعي والمشتغلين به.
الاعتراض الثاني: أنه من الخطأ ربط التعليم بسوق العمل؛ فالعلم الشرعي يراد لذاته، لا لكونه وسيلـة لتحصيل الدنيا، وهذا لا نقاش فيه، إلا أنه لا ينبغي أن يمنع من إثارة السؤال، ولا يسـوغ التعامل مع هذه القضايا من خلال قسمة حادة: إما أن يكون التعليم مجرد أداة لسوق العمل، أو تجاهل العلاقة بينهما.
إننا بحاجة إلى التعامل الواقعي مع مشكلاتنا؛ فالواقع ناطق بأن فرص العمل تتضاءل لدى خريجي التعليم الشرعي، مما أثر على الإقبال كما ونوعا، والأخير أشد خطورة، والنقاش في نوايا المعترضين، وذم جهود المناوئين للتعليم الشرعي لن يقدم حلا للمشكلة بل سيكرسها، ومع مرور الوقت تزداد أعداد من يؤمنون بذلك من جمهور الناس الذين هم المستهدف الحقيقي للتعليم الشرعي، وتفسر اعتراضات أهل العلم بأنها دفاع عن الذات، وحفاظ على المكانة، وهذا مما يسهل تصديقه.
ولا بد أن نستوعب التغير التاريخي، وألا نقرأ الحاضر بلغة الماضي؛ فقد زادت اليوم متطلبات الحياة، وتعقدت فرص العمل، وارتبطت هذه الفرص [ ص: 118 ] ارتباطا وثيقا بنوع التعليم ومستواه، فيصعب أن نجد في ألقاب حملة العلم: القفال، والحائك، والساعاتي، وغيرها مما يرمز إلى الحرف.
وليس من المناسب إحالة الأمر إلى السلطات الرسمية، ورمي المسؤولية عليها؛ فهذا لن يسهم في حل المشكلة، والأثر السلبي سينال التعليم الشرعي أيا كان تقويمنا لمصدر الخلل، وحكمنا على دوافع الآخرين.
وبدلا من ذلك كله علينا أن ننتقل إلى التفكير الجاد في حلول عملية لهذه المشكلة.
2- الاعتراف بالشهادات:
ومن مشكلات هذه المدارس والمعاهد عدم الاعتراف بشهادات خريجيها في عدد من الدول؛ مما يقلل من فرص مواصلتهم للدراسات العليا، أو تولي وظائف في القطاع الخاص أو العام.
وتكثر هذه المشكلات في الدول الإسـلامية غير العربية؛ فيعاني عدد من خريجي التعليم الشرعي المحلي، وخريجي الكليات الشرعية في الدول الإسـلامية من عـدم الاعتراف بشهاداتـهم، ويعبر أحـد المعلمين الأفارقة عن هذه المعاناة قائلا: "كل صباح تموج الشوارع بتلاميذ المدارس القرآنية يذهبون ويعودون، ونتساءل ما مصير هؤلاء الشباب الذين يقفون على أعتاب المستقبل؟ وماذا يكون وضعهم الاجتماعي بعد بضع سنوات" (بامبا، ص82). [ ص: 119 ]
3- انصراف المتميزين:
ومن المشكلات أيضا: انصراف كثير من المتميزين والنابهين والجادين عن هذا النوع؛ نظرا لأن الفرص المرتبطة بسوق العمل أكثر في التخصصات التطبيقية، وتلك التخصصات متاحة للمتميزين باعتبار تحصيلهم وقدراتهم.
وهي شكوى تعاني منها كثير من الدول الإسلامية، يقول طارق حجي: "لسنوات طويلة كنت أسأل العشرات بل المئات من صغار الموظفين والعاملين: هل يذهب أولادكم للتعليم الأزهري؟ وكان الجواب عادة ما يأتي بالاستنكار والاستنكاف والرفض، وهو ما أعطاني شعورا قويا - وقد أكون مخطئا- بأن التعليم الديني لدينا هو ملجأ من لم يكن أمامه من حيث القدرات الاجتماعية أو الذهنية إلا هذا الملجأ الأخير".
كما تشتكي كثير من الدول الإسلامية غير العربية من انصراف المتميزين للتعليم النظامي والجامعات المحلية أو الغربية، وأن كثيرا ممن يتجهون للتعليم الشرعي في بلادهم، أو في الدول العربية ليسوا هم الأكثر تميزا.
وعلى الرغم من وجود حالات من التميز لدى بعض المتقدمين للتعليم الشرعي، إلا أن ذلك استثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها؛ فلا تزال الفئة الأكبر من طلاب هذه المؤسسات من أصحاب القدرات المتدنية، وقد بدأ هذا الأمر في تركيا، وممن اشتكى منه "كارلغا والشاهين" في دراستهما عن التعليم الإسلامي في تركيا، وامتد إلى أنحاء العالم الإسلامي. [ ص: 120 ]
ولئن مرت مرحلة من الإقبال على الكليات والمعاهد الشرعية مع بزوغ الصحـوة الإسـلامية، إلا أنـها لم تدم طويلا، فعـاد الأمر قريبا مما كان عليه فيما مضى.
وحين يتجه أصحاب القدرات الضعيفة للتعليم الشرعي فإن نيتهم الصالحة، ورغبتهم في تحصيل العلم الشرعي ليست وحدها كافية لأن تجعلهم قادرين على القيام بالأدوار المنوطة بهم بصورة فاعلة، فضلا عن تقديم معرفة جديدة وإيجاد حلول لمشكلات المجتمع.. إلخ.
كما أن غلبة أصحاب القدرات المتدنية في مؤسسات التعليم الشرعي يوجد بيئة ضعيفة غير محفزة على تعلم فاعل، ويفقد التنافس الإيجابي المحفز للمتميزين على ندرتهم؛ فتضعف فاعليتهم.
ويبقى هذان المجالان (التعليم النظامي، والتعليم في المساجد) قاصرين عن الوفاء باحتياج التعليم الشرعي والطلب عليه؛ فاتساع دائرة المستهدفين بالتعليم الشرعي، وتنوع الفئات المحتاجة إليه، واختلاف ثقافتهم وبيئتهم يضعف من قدرة المؤسسات القائمة على الوفاء بهذه الاحتياجات.
ومن أبرز الفئـات التي تمثل احتياجا له أهميته في مجال التعليم الشرعي ما يلي:
- أعداد ليست قليلة من خريجي التخصصات غير الشرعية، ذكورا وإناثا، ممن لديهم رغبة ملحة في تحصيل التعليم الشرعي.
- فئات ممن تتطلب طبيعة أعمالهم تحصيل قدر من العلم الشرعي في القطاعات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية.
- جموع من الشباب والفتيات المتجهين نحو التدين، ولديهم رغبة عالية في التحصيل الشرعي. [ ص: 121 ]
هل يمكن أن يبقى الخيار الوحيد لهؤلاء هو مطالبتهم بالاتجاه للدراسة النظامية في المعاهد والكليات الشرعية، رغم ما يصاحبها من قصور ومشكلات؟
أم حضور دروس المساجد، التي قد لا تتلاءم مع ظروف كثير منهم؟
إن هـذا يتطلب التفـكير الجـاد في تطوير بدائل مناسبة تقلل من أثر الاعتماد على هذين المجالين وحدهما، وتغطي مساحة أوسع لم يتم استيعابها؛ وإيجاد البدائل الفاعلة يتطلب جهدا جماعيا، وعملا تعاونيا، وحوارات مطولة بين خـبراء تربويين وطلبة علم شرعي، واستفادة من تجارب الآخرين.
والوصول لمثل هذه البدائل يتطلب قدرا عاليا من المرونة والانفتاح في التفكير؛ فالحلول النمطية الجاهزة، والآراء الفردية للأفراد - مهما علا شأنهم وقدرهم- لن تنهض بتكوين بدائل حقيقية وفاعلة. [ ص: 122 ]