الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الإسلام وصراع الحضارات

الدكتور / أحمد القديدي

من الخلافة الراشدة إلى الخلافة العثمانية

تلك هـي روح الإسلام الجديدة في عنفوانها، وحدة في المشاعر، وتفاعل مشترك إزاء المتغيرات.. لكنه تفاعل ظل إلى اليوم عاطفيا، لعله في زحمة العصر وكثافة المعضلات، لم يجد مجراه، لكن غياب المجرى مؤقتا، لا يمنع من وجود النهر الواثق العظيم.. فكيف يجد النهر مجراه؟ بل كيف يعود إلى مجراه؟ هـذا هـو السؤال.

لم يعد خافيا على أحد اليوم، أن الحلم المشترك، لمليار ومائتي مليون مسلم، هـو تلك الثنائية الرائعة:

(1) فجر الإسلام في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين الأبرار من بعده، رضي الله عنهم وأرضاهم، أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي .

(2) قوة الخلافة العثمانية ، واتساع دار الإسلام في أزهى عهودها، وسيطرتها على ثلث مساحات الأرض تقريبا.

هذان الوجهان للحلم الإسلامي، يمثلان الخلفية الفكرية، الأكثر عمقا، والأوفر تواجدا، في الضمير المسلم، مهما كان موقع الصحوة جغرافيا، وكيفما كانت درجة وعيها حضاريا، وطبيعة علاقتها بالسلطة القائمة سياسيا.

هذان الأساسان التاريخيان، هـما اللذان يتم عليهما عادة إنشاء الصرح السياسي، الملقب بالمشروع الإسلامي الحضاري ، مثلما يؤسس المشروع الديمقراطي على تاريخ الثورة الفرنسيـة (1789م) ، ومثلما يؤسس المشـروع الاشتراكي على الثـورة الروسيـة (1917م) . [ ص: 133 ]

هذان هـما المرجعان، أخلاقيا، وسياسيا، واقتصاديا، وفقهيا.

- فجر الإسلام ، والخلافة العثمانية .

طبعا عندما تقرأ آلاف الكتب والمقالات، الصادرة عن الإسلام الراهن، وعندما تحضر مئات الندوات والمؤتمرات، المنعقدة عن أمة الإسلام، سوف تعجب من وفرة المصادر التاريخية، والمرجعيات الفكرية، ولا بد أن تعثر على تاريخ الدولة الأموية، والدولة العباسية، وفتوح هـاتين الدولتين، وأسباب تقدم الحضارة الإسلامية، في عهديهما، شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، ثم لا بد أن تلمس العناية بدول: السلاجقة، والفاطميين، والموحدين، والمرابطين، وأن تجد اهتماما فائقا بمنارات أصبحت رموزا للإسلام، أمثال عمرو بن العاص ، وموسى بن نصير ، وعقبة بن نافع ، وصلاح الدين الأيوبي ، وعبد المؤمن بن علي ، وغير هـؤلاء الأبطال كثيرون.

لكن الحلم الكامن في الضمير الجماعي، لدى صفوة المسلمين، وفي الشارع الإسلامي، هـو بلا منازع المتعلق بالمرجعين: فجر الإسلام في نقائه، وجلاله وصفاته وسنة رسوله، وأخلاق خلفائه الأربعة من جهة، ثم الخلافة العثمانية بقوتها العظمى، وسيطرتها على البحر والبر، وسيادتها على المضايق، وعدم تفريطها في أراضي المسلمين وأعراضهم من جهة ثانية، كآخر خلافة جامعة للمسلمين حتى العشرينيات من هـذا القرن.

ومن الطبيعي أن يكون هـذان المرجعان، هـما الحلم الحي، المنعش لصحوة الإسلام الراهنة، والمحرك القادر للحركات الفكرية الإسلامية، في زمن صعب ومتشعب، يعتبر النقيض تماما وعلى كل المستويات لهذين المرجعين الكبيرين.

يعيش الشباب المسلم، أينما كان نقيض هـذين المرجعين، فبينما هـو يتأمل [ ص: 134 ] عدل الرسول صلى الله عليه وسلم وعدل خلفائه البررة رضي الله عنهم ، يعيش واقعا يتميز بالمظالم على أصعدة كثيرة: سياسية، وقضائية، واقتصادية.. وبينما يقرأ عن جهاد فجر الإسلام، يعيش سلسلة متصلة من الاستسلامات.. وبينما يتذكر الانتصارات والفتوح، التي انطلقت من جزيرة العرب، حتى غطت نصف المعمورة، يعاني من الهزائم المتوالية، والغزوات الصليبية والصهيونية المتعاقبة، على أرضه وثقافته وثرواته. وتتحول لديه، وفي ضميره، صورة الخلافة العثمانية -آخر الخلافات- إلى غاية منشودة، بما كانت ترمز إليه، رغم نواقصها وعثراتها، من اجتماع المسلمين في كنف واحد، وتضامنهم شعوبا وقبائل، مهما اختلفت أعراقهم وأجناسهم.

فالماضي لدى شباب الإسلام، يكاد يكون مختزلا في هـذين الأصلين، ويصبح الماضي في الوعي الإسلامي المشترك مستقبلا، تتطلع إلى تحقيقه تلك الحركات الفكرية والسياسية، التي تعتمد الإسلام منطلقا، وقاعدة وأداة كفاح.

والخطر المحدق، هـو أن يظل الحلم حلما، ولا يتحول إلى واقع.

الخطر أن يجهض الحلم، وهو بصدد التكوين، فيقع وأد النطفة، لكي لا تصبح جنينا في رحم الحضارة.

الخطر أن يتجمد الفكر المسلم، ويتجلد، وهو في مرحة الحلم بالمرجعين الأساسين، بينما يفرض عليه أعداؤه الأمر الواقع، بتضافر قوى الردة، والجاهلية، والصليبية، والصهيونية.

كيف يمكن توظيف المثل الأعلى ، لتحديد مصير إسلامي أفضل؟ فقد أثبت التاريخ الإنساني، أن المثل العليا يمكن أن تظل مثلا عليا، على مدى قرون طويلة ولا تتجسم.. وأسطع مثال على ذلك، المدينة الفاضلة، التي رسم [ ص: 135 ] ملامحها الفلاسفة الإغريق (بداية من 490 قبل المسيح) فتبارى أفلاطون ، وسقراط ، وأرسطو ، وديمقرطيس ، وأبيقور ، وليوكريتس ، على مدى أربعة قرون، في تشييد مشروع فلسفي متكامل، ظل على مدى ألفي سنة، أي إلى يومنا هـذا، مجرد مشروع.. محض حلم ذهني.

والمدينة الإغريقية الفاضلة ( جمهورية إفلاطون ) ، تناولت لأول مرة في التاريخ الإنساني المعروف، قضايا الحرية، والعبودية، والأخلاق، والهمجية، والطبيعة، والسلطة، والدين، والجنس، وحدود المقدرة البشرية، أي تعمقت في كل المستويات الفلسفية المعلومة لدينا.. لكن المشروع، ظل مشروعا، وانتهت أثينا إلى نوع من الحكم القهري، وإلى انقسام حاد وشرس بين الأحرار والعبيد (150 ألفا من العبيد في مجتمع يعد 400 ألف من المواطنين) ، وإلى انتحار الفلاسفة، واضطهادهم، ونفيهم، وقتلهم. وخارجيا انهار المشروع الطوباوي ، في حروب طويلة بين أثينا واسبرطة ، وحروب أطول بين اليونان والفرس .

ثم انتهت مغامرة الإسكندر إلى انتصار القوميات، التي أراد أن يصهرها، ونشوء الأوطان، التي أراد أن يقهرها، وقيام الحدود، التي أراد أن يمحوها.

وكأن الإسكندر بن فيلبوس المقدوني ، في تلك النهاية، يشكل تحطم مشروع الفلسفة اليونانية على صخور التاريخ، وجاءت سورة الكهف في القرآن الكريم تلخص من الآية 83 إلى الآية 99 هـذه الجملة من التداعيات، قال تعالى:

( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سببا * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين [ ص: 136 ] إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال هـذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ) (الكهف:83-99) .

ولا يفوتنا تمسكا بالدقة، أن نشير في هـذا الباب، أن اختلافا كبيرا، قام بين علمائنا المفسرين، حول هـوية ذي القرنين المذكور في سورة الكهف. فبينما أقر الألوسي ، والثعالبي ، وغيرهما، أن المقصود هـو الإسكندر المقدوني ، نفى ذلك ابن كثير ، ومحمد الطاهر بن عاشور ، وغيرهما، وقدم كل من الفريقين حججا وبراهين، بل إن الشيخ عبد الرحمن الثعالبي (القرن الثاني هـجري -الرابع عشر مسيحي) يروي (أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران: فالمؤمنان سليمان بن داود عليهما السلام، والإسكندر الأكبر، والكافران نمرود وبخت نصر) .

ونميل نحن إلى الاعتقاد إلى ما أكده الشيخ سعيد حوي ، حينما ذكر أن النص القرآني لا يذكر شيئا عن شخصية ذي القرنين، ولا عن زمانه، أو مكانه، [ ص: 137 ] فالمقصود إذن هـو العبرة المستفادة من القصة، والعبرة تتحقق بدون الحاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان [1] .

وإني أستدل بعرض هـذه القصة القرآنية، على أن الله سبحانه وتعالى ، ضرب المثل بها، على هـشيم المشروع الحضاري الإغريقي: ( قال هـذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا )

فالإسكندر كان تمليذا لفلسفة اليوانيين، وتعلم منهم مجموعة القيم التي انطلق غازيا، لتجسيمها، واختلف المؤرخون بعد ذلك في قضايا إيمانه وتوحيده، لكن العبرة -في نظري المتواضع- من ذكره في سورة الكهف، هـي الإقرار حسب نص الآية الكريمة، بأن وعد ربي كان حقا، حين اندثر صرح الإسكندر الأكبر، لأسباب عديدة، أحصت تلك الآيات البينات خلفياتها، ولسنا في هـذا المجال بصدد إفرادها بالتحليل.

لكن هـنا تتجلى إرادة الله تبارك وتعالى.. كأنما اندثر الحكم الإغريقي إلى حين أعد الله الأمة الإسلامية، في خلافة الدولة العباسية لإحيائه، وتعريبه وتوزيعه، بل وإثرائه ونقده وتحديثه، حتى كانت الريادة الحضارية للإسلام الحنيف، بفضل تفاعل ذلك التراث العلمي والفلسفي اليوناني، مع العقل المسلم، الذي تميز بالمغامرة الفكرية الموفقة، والتسامح الفطري الرائع، وإرادة الفتح، والانتشار بالثقافة والعلوم والآداب. [ ص: 138 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية