بين الاجتهاد.. والتقليد..
وقد كنت أرى الطريق الأفضل في فهم الأحكام الفرعية سوق النص أولا من الكتاب والسنة، ثم إتباعه بأفهام الفقهاء الكبار، ومن يليهم من أهل العلم.
ثم قرأت كلاما آخر للشيخ الأديب الفقيه على الطنطاوي تعليقا على كلمة جميلة لابن الجوزي في منع التقليد، نذكرها أولا، ثم نذكر التعليق: قال ابن الجوزي ينصح طالب العلم:... ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم، ومن أقبح النقص: التقليد، فإن قويت هـمته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهبا ولا يتمذهب لأحد، فإن المقلد أعمى يقوده من قلده..
قال الشيخ علي: أي يستعد بالتعلم والدأب حتى يصل إلى القدرة على الاجتهاد وترك التقليد! لا أن يجتهد لنفسه وهو لا يعرف من عدة الاجتهاد إلا حفظ أحاديث، وقدرة على معرفة مكان وجودها، والبحث في كتب الرجال عن أحوال رواتها.
قال:
والناس في هـذه المسألة بين مفرط في اتباع المذاهب، لا يفرق بين الحكم المؤيد بالنص الصريح وما هـو رأي للفقيه، وبين مفرط فيها، يتركها جملة ويحاول أن يأخذ من الأحاديث رأسأ، ولو لم يكن عنده أدوات الأخذ من الحديث.
قال:
والحق أنه على المسلم أن يتفقه أولا في مذهب معين، فيعرف أحكام دينه، ثم ينظر في دليلها، ويحاول أن يتعلم ما يعين على معرفة طرق الاستدلال وقوة الدليل، ثم ينظر، فإن رأى دليلا ثابتا أقوى من دليل مذهبه أخذ به، وقد بين ابن عابدين في أول الحاشية أن الحنفي المقلد الذي يجد [ ص: 144 ] حديثا صحيحا على خلاف مذهبه، عليه أن يأخذ به، لا سيما في العبادات، وليس يخرج في ذلك عن كونه حنفيا، والله قد أوجب على المسلم اتباع الكتاب والسنة، ولم يلزمه بمذهب من المذاهب الأربعة ولا غيرها، وما التقليد إلا رخصة للعاجز عن الأخذ من الكتاب والسنة.
والمتأخرون الذين قالوا باتباع أحد المذاهب الأربعة، إنما قالوا ذلك لما رأوا غلبة العجز على الناس، ولئلا يصير الأمر فوضى، فيدعى كل واحد أنه صار أبا حنيفة أو الشافعي كما هـو الحال الآن.
والمتأخرون الذين قالوا باتباع أحد المذاهب الأربعة، إنما قالوا ذلك لما رأوا غلبة العجز على الناس، ولئلا يصير الأمر فوضى، فيدعى كل واحد أنه صار أبا حنيفة أو الشافعي كما هـو الحال الآن.
إنني ملت إلى هـذا الرأي، وإن كان لا يختلف في نتيجته عن مقترحي الأول، فالمصير هـنا أو هـنا هـو كتاب الله وسنة رسوله..! والذي دفعني إلى ترجيح كلام على الطنطاوي هـو ما بلوته ممن يشتغلون بالسنن مع قصور الفقه وضعف الخلق.
إن نبينا عليه الصلاة والسلام بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وهؤلاء الناس يذهبون بأنفسهم ويتلمسون للبرآء العيب، ويدعون العلم، ويتهمون أكابر الفقهاء بالجهل ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم
وقد تبنوا أحكاما معينة في قضايا صغيرة أو كبيرة، وخرجوا بها على الناس فزادوا المسلمين فرقة وزادوا الطين بلة...!
ولما كان الإسلام يمر بفترة عصبية من تاريخه الطويل، ولما كان ضغط الأديان الباطلة والمذاهب الجائرة شديدا عليه، ولما كان أحوج ما يكون إلى أولي النهي والحصافة يعرضون تعاليمه، ويحسنون الذود عنه، فإن هـؤلاء انطلقوا بقصورهم وجراءتهم يتحدثون عنه فأساءوا وأسفوا ووقفوا سيره وألحقوا به التهم..!
إن تاريخنا الثقافي عامر بالرجال الراسخين في العلم، ولهؤلاء الرجال نظرات لها وزنها في فلسفات العالم وما يسوده من تيارات، ولهم كذلك في [ ص: 145 ] فقه الكتاب والسنة مذاهب محترمة، وقد استقر الأمر في ديننا أنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم لا ننتفع بهذه الحصيلة الرائعة من ثقافتنا الإسلامية ونحن نواجه في فلسفة الأخلاق والقانون والحضارة ما لا بد من رده بالحسنى؟؟
قد تسألني: ماذا تعني؟ أقول لك: إنني لا أبخس عظيما حقه لرأي ارتآه قد يخالفه فيه الآخرون ولا أرى حرجا في تجاوز ما يقال عن خطئه، والاستفادة من خيره الكثير بعد ذلك!
إن ابن حزم مخطئ في إنكار القياس، والإغراق في الأخذ بالظاهر، بيد أنه عالم فحل في مقارنة الأديان، وفي الاستنباط من الأثر، وله عبقرية في هـذا الميدان لا معنى لإهالة التراب عليها.
وأبو حامد الغزالي يعترف علماء الغرب أنه ألحق بفلسفة اليونان دمارا محققا في كتابه ((تهافت الفلاسفة)) وهو أصولي وفقيه، وأديب ومتحدث في التربية والأخلاق لا يشق له غبار! كيف أتناسى كل هـذه المذاهب لأنه أخطأ في بعض المرويات..
تقول: إنه من أهل التأويل!! إن مفكري السلف والخلف جميعا اضطروا إلى التأويل، وإن كان السلف أكثر تفويضا وأقل تأويلا.
لقد تتلمذت على كتابات لابن الجوزي وابن تيمية والغزالي وابن رشد ، وانتفعت من صواب أولئك كلهم، وتركت ما تعقبهم الآخرون فيه بحق!
وعندي أن تأويل الغزالي حينا لا يخدش منزلته، كما أن إنكار ابن تيمية للمجاز أو توقفه في نفي الجسمية لا يخدش منزلته..
لماذا أذهل عن الجهود العلمية الجبارة التي خلفوها بعدهم في نصرة الإسلام ورد خصومه والنصح لأمته؟
لماذا أتوقع العصمة من البشر، وأجعل الأخطاء القليلة التي تنسب إليهم [ ص: 146 ] جبالا تنهدم فوق رءوسهم وتأتي على ذكراهم، ما أحوجني وإياهم إلى مغفرة الله وأحوج الإسلام بعد ذلك إلى جهاد أبنائه على اختلاف معادنهم ومنازعهم في الذب عنه، ورد الذئاب الشرسة التي تغير عليه في هـذا العصر..