خلاف الفقهاء..
إن الخلاف الفقهي في الفروع قديم قدم الإسلام نفسه، وهو خلاف لا بد منه، ولا خوف على الدين من بقائه إلى قيام الساعة!
كل ما نبغيه أن يكون هـذا الخلاف في حدود الفكر العلمي الإسلامي والضمير الراغب إلى الله الحريص على مرضاته..
وقد أجمع المسلمون على أن الكتاب والسنة دعائم التشريع الأولى، ولم يقل مسلم في المستقدمين أو المستأخرين: إن سنة محمد صلى الله عليه وسلم تهمل، وإنها ليست مصدرا للتشريع!
وما يردده الآن بعض الشواذ منكر قبيح، ودلالة خبال وفسوق..
وقد تتفاوت الأنظار في تقدير المرويات، والحكم بقبولها أو رفضها، ولا يعني هـذا ترك السنة، فإن ما قرر العلماء ثبوته موضع الاحترام..
وعندما يترك فقيه حديثا من أحاديث الآحاد لدليل آخر أقوى منه في الكتاب أو السنة، فهو لا يتهم بترك السنة، وغاية ما يوصف به أنه شديد التحري في الإثبات، وأنه ما ترك قط حديثا يعتقد أنه صحيح.
لما ألفت كتابي ((عقيدة المسلم)) لم أذكر شيئا عن المهدي المنتظر، وعندما خوطبت في ذلك، وقيل لي: لم لم تذكره في علامات الساعة؟ قلت: من محفوظاتي وأنا طالب أنه لم يرد في المهدي حديث صريح، [ ص: 139 ] وما ورد صريحا فليس بصحيح! وإذا كان ما ورد لم ينهض إلى تكوين حكم ثابت، فكيف أجعله عقيدة تفصل بين الكفر والإيمان، وأردفت ضاحكا: المشكلة الآن ليست في المهدي المنتظر ، إنما هـي في المهدي غير المنتظر، الذي يفاجئنا بظهوره بين الحين والحين، ويزيد العدد في إحصاء الدجالين..
ومن تجاربي مع السنة الشريفة أن المسلمين أخطئوا مرتين في تقديرها:
المرة الأولى: عندما روجوا للمرويات الضعيفة، وفسحوا لها في تقاليدهم وأخلاقهم وعباداتهم أحيانا.
والمرة الثانية: عندما عجزوا عن وضع الصحيح موضعه الحقيقي، ولم يحرروا المراد منه تحريرا ذكيا.
ولن أنسي أبدا أن رسالة طبعت في مكة المكرمة تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أغار على الناس دون دعوة! وشن الحرب ليأخذ الناس على غرة!! وأخرى تفسر الغزوات بأنها حرب هـجومية ابتداء.
والمشتغلون بالسنن من هـذا الصنف الغبي بلاء على الكتب والسنة معا، وهم طراز مقلق للجهل المركب.
وقد تكون عندي شعور ينمو على مر الأيام، قوامه: أن ضعيف الصلة بالقرآن الكريم، المحجوب عن هـداياته وأنواره لا ينبغي أن يشتغل بالسنة ويستنبط الأحكام منها، فإنه قلما يهدي إلى الحكمة مع صدوده عن الينبوع الأول للحكمة، وهو كتاب الله سبحانه وتعالى.
ولست أعني بضعف الصلة قلة التلاوة، وإنما أعني ضعف التدبر، وبلادة الشعور، وعدم إدراك الدلالات البعيدة للكتاب العزيز!
ولما كنت أول عهدي بالفقه، قد درسته على مذهب أبي حنيفة ، فإني لا أزال أرى القرآن أولى بالتقديم من الآثار الأخرى، وأن التحريم [ ص: 140 ] لا بد فيه من قاطع.. إلخ.
ومع هـذا الميل الفقهي، فلست أقطع الطريق على غيري من أصحاب العقول العلمية!