( فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا )
أما قوله تعالى : ( فالمغيرات صبحا ) يعني الخيل تغير على العدو وقت الصبح ، وكانوا يغيرون صباحا لأنهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئا ، وأما النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدين للمدافعة والمحاربة ، أما هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد . وأما الذين حملوا هذه الآيات على الإبل ، قالوا : المراد هو الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى ، والسنة أن لا تغير حتى تصبح ، ومعنى الإغارة في اللغة الإسراع ، يقال : أغار إذا أسرع وكانت العرب في الجاهلية تقول : أشرق ثبير كيما نغير : أي نسرع في الإفاضة .
أما قوله : ( فأثرن به نقعا ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في النقع قولان :
أحدهما : أنه هو الغبار وقيل : إنه مأخوذ من نقع الصوت إذا ارتفع ، [ ص: 63 ] فالغبار يسمى نقعا لارتفاعه ، وقيل : هو من النقع في الماء ، فكأن صاحب الغبار غاص فيه ، كما يغوص الرجل في الماء .
والثاني : النقع الصياح من قوله عليه الصلاة والسلام : ما لم يكن نقع ولا لقلقة أي فهيجن في المغار عليهم صياح النوائح ، وارتفعت أصواتهن ، ويقال : ثار الغبار والدخان ، أي ارتفع وثار القطا عن مفحصه ، وأثرن الغبار أي هيجنه ، والمعنى أن الخيل أثرن الغبار لشدة العدو في الموضع الذي أغرن فيه .
المسألة الثانية : الضمير في قوله : " به " إلى ماذا يعود ؟ فيه وجوه :
أحدها : وهو قول الفراء أنه عائد إلى المكان الذي انتهى إليه ، والموضع الذي تقع فيه الإغارة ، لأن في قوله : ( فالمغيرات صبحا ) دليلا على أن الإغارة لا بد لها من وضع ، وإذا علم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجز ذكره بالتصريح كقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1]
وثانيها : إنه عائد إلى ذلك الزمان الذي وقعت فيه الإغارة ، أي فأثرن في ذلك الوقت نقعا .
وثالثها : وهو قول الكسائي أنه عائد إلى العدو ، أي فأثرن بالعدو نقعا ، وقد تقدم ذكر العدو في قوله : ( والعاديات ) .
المسألة الثالثة : فإن قيل : على أي شيء عطف قوله : ( فأثرن ) قلنا : على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، والتقدير : واللائي عدون فأورين ، وأغرن فأثرن .
المسألة الرابعة : قرأ أبو حيوة : " فأثرن " بالتشديد بمعنى فأظهرن به غبارا ، لأن التأثير فيه معنى الإظهار ، أو قلب ثورن إلى وثرن وقلب الواو همزة .